نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
هل ينجلي الدُخان الابيض عن بابا جريء يعكُس جيوسياسية دهرية العالم المُتأزم؟ - تكنو بلس, اليوم الأربعاء 7 مايو 2025 10:13 صباحاً
المحامي كارول سابا - باريس
مليار وأربعمئة مليون كاثوليكي و133 كاردينالاً ناخباً من القارات الخمس، توافدوا إلى روما لانتخاب خليفة بطرس على رأس كنيسة روما، أمام جدارية "يوم الدينونة الأخير" التي ستؤنبهم على خيارهم في يوم الدينونة. هذه الجدارية رسمها ميكيل انجيلو في كنيسة "الشابيل سيكستين" الشهيرة حيث سيُغلق عليهم ثلاثة أيام، وحيث يُنتخب البابا منذ القرن الخامس عشر.
الكنيسة الكاثوليكية على مُفترق طرق، وهي اليوم في زمن مِفصلي، أمام تحديات كبرى مجتمعية، جيوسياسية وروحية، وتحديات في حوكمتها وفي إدارة أزماتها، في عالم مُتوتر ومُتحوِّل ومُتحرك. غَدُها لا يُسَطَّر فقط بدءاً من الأربعاء المُقبل بانتخابات الكرادِلة. فاستشراف مُواصفات البابا الـ267 في هذه اللحظة التاريخية من حياة الكنيسة الكاثوليكية يتطلب فهماً عميقاً للمومنتوم الحالي المِفصلي العالمي والكنسي.
لا بد من قراءة استرجاعية لتراكُمات "عقود المِحنة والتحدّي" التي عاشتها الكنيسة منذ بابوية يوحنا الـ23، منذ 1958 إلى اليوم. ولا بد أيضا من قراءة استشرافية مُلهَمَة لعلامات الأزمنة التي تحدث عنها الرب في إنجيل متى، يتمّ فيها استخلاص العِبَر المُتراكمة وتحديد التحديات الآتية والداهمة لإخراج الكنيسة من الحيثيات الدهرية الظرفية إلى "الرؤية الكنسية الكبيرة". فرُقاد البابا فرنسيس اختتَمَ حقبة زمنية كنسية مهمة مليئة بالتحولات العالمية والتحديات الكنسية، بدأت ببابوية يوحنا الـ23، في 1958، واستمرت مع خلفه بولس السادس في 1963، ثم مع يوحنا بولس الأول في 1978، وبعده مع يوحنا بولس الثاني من 1978 إلى 2005، وصولا إلى بينيديكتوس الـ16 التي امتدت ولايته الكنسية إلى 2013 حين انتخاب فرنسيس.
بابوية يوحنا الـ23، البابا الطيِّب، كانت "تمهيدية" لعمل كنسي كبير. فهو الذي كان على بساطة إنجيلية كبيرة وعلى حكمة رؤيوية مُلهَمَة جعلته يفهم أن الكنيسة المعانية أمراض المؤسسات المترهلة، هي أمام تحولات وأخطار كبيرة إن لم تواجهها بِنَفَسْ بِشاريّ متجدد يجمع الكل إلى واحد، تعود فيه الكنيسة إلى منهجيات الوحدة والمجمعية التي لامس تقليدها في بلدان الأرثوذكسية حيث خدم كسفير بابوي، وكان قريباً من كنائسها. انتخابه فاجأ الجميع، والذين انتخبوه اعتقدوا أنه على بساطته، لن يُقدِم على شيء كبير. ففاجأ الجميع وأطلق "الرؤية الكبيرة" لانعقاد مجمع كبير، المجمع الفاتيكاني الثاني، اعتقاداً منه بضرورة "الآجيورنامنتو" (التجدُّد) ضمن الكنيسة الكاثوليكية، مقدمة لحوارات انفتاحية مع العالم، وأهمها له، اللقاء والالتقاء مجدداً مع الشرق الأرثوذكسي. هو الذي حضَّر وفتح الطريق أمام لقاء التراسل مع البطريرك القسطنطيني أثيناغوراس، واللقاء الجسدي الذي حققه البابا بولس السادس في القدس مع الأخير، في 1964، بحيث تم رفع الحرمات المتبادلة بين الكنيستين التي رست في ضمير الكنيسة منذ انفصال 1054.
أما بابوية بولس السادس الطويلة، فبقيت أسيرة أزمات داخلية في حوكمة الكنيسة الكاثوليكية وفي الإستابليشمنت الكنسي الفاتيكاني، وفضائح مالية في مصرف امبرزيانو الفاتيكاني، لم يقدر على جبهها. قد يكون دفع الثمن خلفه يوحنا بولس الأول، الذي حكم 33 يوماً فقط. وبقيت بابوية بولس السادس أسيرة لجيوسياسية عالم الحرب البادرة وصعود أخطار المواجهة الجيوسياسية والنووية بين معسكر حلف فرصوفيا ومعسكر حلف الأطلسي، وصعود حروب الشرق الأوسط، وغزوة قبرص وتقسيمها، وضرب أساسات لبنان، وسقوط الشاه في إيران، وصعود الشيعية السياسية فيها مع عودة الخميني اليها.
بابوية يوحنا بولس الثاني عام 1978، كانت مفاجأة للجميع بانتخاب بابا بولوني من وراء الستار الحديدي مما كان يُعَدّ وقتها، إذا حصل، من رابع المُستحيلات. حصلت الأعجوبة في لحظة مفصلية، كنسية وجيوسياسية، لحظة الكاردينال المقاوم، وبداية ترهل الإمبراطورية السوفياتية ودخولها المستنقع الأفغاني. أرسلت مدخنة مجمع الكرادلة دخانا أبيض لراع بولوني مُقتدِر مفعم بالكاريزما، أطلق حرب ردَّة لإعادة إنعاش الإيمان ومناهج الكنيسة ليس في أوروبا الشرقية فحسب، ولكن في كل بقاع العالم من خلال زياراته الرسولية المكوكية لكل الكنائس، في عولمة إعلامية قبل العولمة. كانت بابوية يوحنا بولس الثاني بابوية قوة كاريزماتية، مُقتدرة وفاعلة كنسياً وإعلامياً وجيوسياسياً، أسقط فيها القلعة الشيوعية بعد عمل بشاري دؤوب، "كاتاكومبي"، سعى فيه إلى تسليح إيمان الروح وروح الإيمان، وتعميق روح الصبر والرجاء أمام قمع المخابرات والعسكر. وأعاد ربط رئتي شرق أوروبا بغربها. الرصاصة التي أصابته لم تسقطه، وحاول في النهايات رغم ضعف الجسد وبسبب قوة الروح، إعادة ربط ما أراده أبوه الروحي يوحنا الـ23، أي الربط بين الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية، من خلال "حَجِّه" إلى ديار استقامة الرأي على خطى بولس، من بلاد الإغريق التي طلب فيها، في أثينا، غفران الأرثوذكس على فعلة الحملة الصليبية الرابعة التي غزت القسطنطينية في 1204، وأصرّ على الحج إلى الديار الإنطاكية ودمشق التي انطلق منها بولس والرسل، واستقبله ثالث عشر القديسين الاطهار، البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق المستقيم.
أما بابوية بينيديكتوس الـ16، فعانت تداعيات أَسْرٍ مِن نوع آخر، وأخطر، أي تصاعد التحول الجيوسياسي العالمي والمُجتمعي والراديكاليات الدينية والسياسية على أنواعها. فتصاعدت مناهج العولمة المتوحشة والهجمة الليبيرالية الراديكالية الساعية إلى تفكيك القيم والقديم واستبداله بهرميات قيمية جديدة، سياسية واقتصادية ومجتمعية. في الجيوسياسية العالمية، وبعد سقوط قلعة الشيوعية وسقوط حائط برلين في 1990، تراجعت جيوسياسية الحرب الباردة بسبب سقوط أحد القطبين، ولكن تصاعدت سياسات القطب الأوحد الباقي، من حروب أفغانستان والعراق، وزعزعة دول شرق أوروبا الى مُحاصرةً عودة قوة روسيا، مروراً بالشرق الأوسط الذي عانى ولا يزال تداعيات سياسية إدارة أوباما في الشرق الأوسط ودعمه لصعود الإسلام السياسي الإخواني - التركي - القطري. وبدأت في المقابل ملامح تكتلات وتحالفات نيو إمبراطورية جديدة لها أطماعها التوسعية من الصين وروسيا والهند وتركيا وإيران، مترافقة مع صعود نقمة دول الجنوب الشامل على الغرب وتموضعها ضمن التكتلات الناشئة. وتصاعدت مناهج البعثات الدينية السياسية التوسيعية في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط وصولاً إلى آسيا الوسطى وأرمينيا، المهدية مع إيران، والسنية مع الأردوغانية، واليهودية مع صعود نجم نتنياهو.
انتخاب بينيديكتوس الـ16 عام 2005 في خضم هذا العالم المتحوِّل والمأزوم، كان محاولة من وسط السلطة الفاتيكانية وقلبها الأوروبي، لعدم تشتت وسط الكنيسة على الأطراف، وضرورة الحفاظ على مركزية كنسية ما في هذا العالم الجديد المتعولم الذي يُراد به أن يَفقد بوصلته لكي تُسيِّره القوى العظمى الناشئة والقديمة، والقوى المالية والمجتمعية التي تحرك العولمة الفاحشة ومصالحها. فكانت بابوية بينيديكتوس، معلم العقائد، فكرية الطابع، بابوية التذكير بالعقيدة ومتطلباتها أمام تمادي التحرُّر والليبرالية الراديكالية التي بدأت، بالتشريع وغير التشريع، في كل الدول الغربية تهدد القيم التقليدية. فكانت بابوية التشديد على عقيدة الإيمان وضروراتها، لكنها ظهرت في النهاية بابوية انكفائية دفاعية قلقة، وكأن المياه تجري من تحت أقدام الكنيسة فيها، من دون أن تكون قادرة على التأثير. وأتت استقالة البابا لتضيف قلقاً مسيانياً، كأنها تأكيد لهذا الضعف وهذا الترجّح لكنسية تبحث عن بوصلة في بحر هائج وعاصف، وفي عالم متحول.
بابوية فرنسيس أتت من رحم هذا الضعف والترجّح والبحث عن بوصلة كنيسة في عالم اليوم. هل أكمل فرنسيس عمل بينيديكتوس الـ16 أم عاكَسَهُ؟ هل حصل تخطي القلق والترجّح؟ على عكس بينيديكتوس الـ16، الذي انتُخِب لاسترداد "مركزية" كنيسة أوروبية ما، جاء فرنسيس مِن الأطراف، من الأرجنتين، ليُنجز "لامركزية" كنيسة موسعة. ففي مجمع الكرادلة الذين سماهم هو بغالبيتهم والذين سينتخبون خلفه، هناك 53 كاردينالاً فقط من أوروبا، والباقون هم من الأطراف، والغالبية من دول الجنوب الشامل وقاراته. على عكس بينيديكتوس الـ16، الذي كان يضع لاهوت العقيدة قبل الإنجيل، أي لاهوت مقياس القانون قبل حرية الروح، جاء فرنسيس، كما يقول سيرجيو روبين، كاتب سيرته، ليضع لاهوت الإنجيل قبل لاهوت العقيدة، أي لاهوت التسامح. ربما كان من الخطأ أن يتم وضع الإنجيل ولاهوت العقيدة في مواجهة. وكان فرنسيس أشد المعارضين لما كان يُسميه "لاهوت المكاتب"، أي اللاهوت الأكاديمي، مفضلاً عليه "لاهوت الشعب"، والإيمان الشعبي. فهو الذي انتخب على رجاء "بشارة جديدة" حين كلَّم الكاردينال برغوغليو مجمع الكرادلة بقوله قبل انتخابه "إن الكنيسة مدعوة إلى الخروج من ذاتها للتوجه نحو الشعب".
يُخطئ من يعتقد أنه كان ليبيرالياً أو تقدمياً أو يسارياً، وإن كان بعض تصريحاته مبهماً، فهو بابا مُحافِظ، كان همه الأساسي عيش الإنجيل بطريقة نموذجية بالتسامح والأخوة، وهمه إعلان البشارة. قد يكون أخطأ بالتمادي في الذهاب إلى الأطراف على حساب الوسط، في زمن يترجّح فيه الوسط وقلب الكنيسة الكاثوليكية على وقع تداعيات عالمية لأزمات الإساءات الجنسية والمالية وأزمات الحوكمة السلطوية للأساقفة الذين لم يترك مناسبة إلا أنّبهم على أمراضهم السلطوية البعيدة من الإنجيل، وفيه ترجّح أخطر بين الإيمانية الهوياتية السياسية والإيمان الرسولي البشاري المُتحرر من كل الارتباطات الدهرية السياسية والسلطوية. أرثوذكسياً، كان أيضاً مترجحاً بين موسكو والقسطنطينية، وهذا لم يكن المطلوب بتاتاً، وإن توافق مع البطريرك كيريل في لقائه في كوبا عام 2016 على ورقة طويلة عريضة فيها مجموعة مبادئ سياسية ومجتمعية لجبه الانعكاس القيمي في عالم اليوم، ولم يتفق مع سياسة القسطنطينية الكنسية في أوكرانيا وبقي موقفه من حرب أوكرانيا على عكس التيار السائد.
الكنيسة اليوم في أزمة وامامها تحديات جمَّة، وامام مجمع الكرادلة تحد كبير للحفاظ على الوحدة الداخلية في ظل تنازع تيارات داخلية كثيرة في الكنيسة، منها التقليدي المُحافظ المتشدِّد، ومنها الليبيرالي المتحرِّر المتحوِّل، ومنها الحائِر التائه الفاقد الدسامة الروحية، الذي وصفه الكتاب المقدس بأنه فاتر، لا بارداً ولا ساخناً، سوف يُتقيَّأ من الفم. فالصراع محتدم بين الإصلاحيين المتساهلين والمحافظين المتشددين الذين يتهمونهم بالعصرنة. أما التحدي الخارجي الأهم، أبعد من تحديات الحرب في أوروبا والشرق الأوسط وفي عالم جيوسياسي مأزوم وحائر، فيتعلق بفاعلية الشهادة المسيحية ونوعيتها في زمن الانعكاس القِيَمِيّ الذي يَضرب، منذ عقود العولمة وتنامي الليبيرالية الراديكالية، أكثر فأكثر كل هرمية القِيَم المَسيحية التقليدية وأساساتها التاريخية في مجتمع اليوم، بحيث يكون السعي الى استبدالها بهرمية جديدة لقيَم وثنية جديدة "نيو باغانية".
بينيديكتوس الـ16 أراد التشديد على الوسط، وكاد أن يفقد الأطراف. فرنسيس شدَّد كثيراً على الأطراف، وكاد أن يفقد الوسط. فهل يرسل الدخان الأبيض بابا جريئاً، على قلب الله، يُدرك بالنعمة أن وحدة المركز دون تنوع الأطراف، مشكلة، وأن تنوع الأطراف دون وحدة الوسط، مشكلة أيضاً، أكبر! إلى الرب نطلب.
0 تعليق