أديب قدورة... أنطوني كوين سوريا الذي لم تمسّه العادية - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أديب قدورة... أنطوني كوين سوريا الذي لم تمسّه العادية - تكنو بلس, اليوم الخميس 15 مايو 2025 05:45 مساءً

كان يمشي كما لو أن الأرض قد كُتبت باسمه، يحمل ملامح فلسطينية محفورة بالحجر والحنين، وصوتاً يشبه أبطال القصص الذين لا يُهزمون. أديب قدورة، لم يكن مجرد فنان، بل طرازٌ نادر من الممثلين الذين يُشبهون الزمن لا الموضة، الذين لا يُشبهون أحدًا ولا يُشبههم أحد.

ولد في ترشيحا، قرية فلسطينية تفيض بذاكرة الزيتون والحكايات المنكوبة، عام 1948، عام النكبة، كأن الحياة أرادت أن تزرع فيه منذ البدء جرحًا يُنبت الفن. نزحت عائلته إلى مدينة حلب، وهناك تربى على الفن التشكيلي وعلّمه في المدارس، قبل أن يسحبه الشغف من قاعة الصف إلى خشبات المسارح وعدسات الكاميرات.

قدورة لم يدخل الفن من باب النجومية، بل من أبواب جانبية فيها ديكور، مكياج، إضاءة، وتصميم أزياء. كان يُتقن كل صنعة تخصّ العرض، كأنّ المسرح بيته لا مهنته. لكن عين المخرج نبيل المالح كانت أول من رآه على حقيقته، فرشّحه لبطولة فيلم "الفهد" عام 1972، عن رواية حيدر حيدر، وكان ذلك الدور تحوّله من "فنان كواليس" إلى وجه سينمائي من نارٍ وذهب.

 

أديب قدورة في مسلسل 'دموع الأصايل'.

 

لم يكن "الفهد" مجرد فيلم، بل حدث. طاف العالم، نال الجوائز في لوكارنو السويسرية، كارلو فيفاري، وتشيكوسلوفاكيا، وصفق له الجمهور في مهرجانات دمشق وسينما الشباب. قيل عنه يومها، بلسان الممثل الفرنسي الشهير جورج ويلسون : "هذا أول ممثل يقف أمامي بطريقة صحيحة". كانت الصحف تكتب عنه كما يُكتب عن الكواكب المكتشفة حديثًا، وكان من النادر أن تُعرض لقطة من دون أن يسرقها.

لكن الشهرة لم تكن سهلة، ولا الطريق مفروشة بالبطولات. بعد عرض "الفهد"، أغلق كثيرون من منتجي السينما أبوابهم في وجهه، بخاصة في مصر حيث سادت وقتها سياسة "النجومية القومية"، فكان أديب يُصنّف كممثل سوري لا كبطل عربي. ومع ذلك، لم ينكسر. سافر إلى إيطاليا حيث تتلمذ على المخرج تونيني الذي قال له بعد أن شاهد صوره بين نجوم العالم: "أنت واحد من هؤلاء".

كتب السيناريو، أبدع في "عرس الأرض" للمخرج صبحي سيف الدين، وحصد الفيلم جائزة أفضل نص في مهرجان لبناني مرموق. ورُشّح لجائزة أفضل ممثل في مهرجان قرطاج عام 1980 عن "بقايا صور"، لكن الجائزة حُوّلت رمزيًا إلى إفريقيا تكريمًا لها، رغم إعلان اللجنة أن أداءه هو من فاز فعلًا.

 

أديب قدورة في

أديب قدورة في

 

في التلفزيون، كان وجهه عنوانًا للهيبة والصدق. ظهر في أعمال لا تُعدّ: "الحب والشتاء"، "عز الدين القسام"، "حصاد السنين"، "عذراء الرمال"، "سفر الحجر"، "سحر الشرق"، و"عمر الخيام"، ليشكّل مع أبناء جيله نسيجاً درامياً لا يزال يُبهر الأجيال. وفي المسرح، تنقّل بين النصوص العالمية والعربية، وقدّم أدواراً في "هبط الملاك في بابل"، و"مأساة غيفارا"، و"السيد بونتيلا وتابعه ماتي"، ليؤكد أنه فنان لا يتوقف عند شكل واحد، ولا يُحب القوالب.
وقد سُئل الناقد السويسري في أحد المهرجانات الدولية عن انطباعه عنه، فأجابه الكاتب المسرحي محمود دياب بحزم: "إنه أنطوني كوين سوريا". لم يكن ذلك توصيفاً مبالغا فيه، بل اعتراف بحقيقة جمالية وجبروت تمثيلي قلّ نظيره.

لكن السنوات مضت، وتقلّبت الأذواق، وجاء جيل جديد لا يعرف من الفن سوى سرعته. غاب قدورة عن الشاشة، لا لأنه نضب، بل لأن الساحة ضاقت عن احتواء فنانٍ لا يساوم. اعتزل بصمت، واختار أن يبقى في الظل، بينما اسمه لا يزال يُكتب في كل نصّ عن بدايات السينما السورية وتوهّجها.

رحل أديب قدورة في 14أيار/ مايو 2025، عن عمر ناهز 76 عاماً، بعد صراع مع المرض وصمت طويل. شيّعه عشاقه من جامع الأكرم، وودّعه الفن العربي بكثير من الصمت، وقليل من الوفاء. لم تُقم له مهرجانات تأبين، لكن مشهده في "الفهد"، وهو يركض كالبرق عبر الأزقة، ظل يركض في ذاكرة محبيه حتى آخر لحظة.

في زمن التصفيق السريع، والنجومية البلاستيكية، يبقى أديب قدورة علامة لا تُشبه إلا نفسها. لم يكن نجمًا يُحب الكاميرا، بل فنان يُخيفها بصدقه. عاش كمتمرد، ومات كحارس للمعنى. وفي كل مرة نعيد فيها مشهداً له، سنفهم لماذا قيل: "كان أديب قدورة ممثلًا لا يُمثّل، بل يتجسّد".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق