نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
فاطمة سعد... حين يصبح الصوت حياةً كاملة - تكنو بلس, اليوم الجمعة 16 مايو 2025 06:26 مساءً
في الطفولة، لا نتذكر فقط الرسوم، ولا أسماء الشخصيات، بل شيئاً أعمق، أكثر التصاقاً بالذاكرة الصوت، صوتاً يدخل القلب قبل أن نفهم معناه، ويصير لاحقاً جزءاً من وعينا العاطفي واللغويّ. وفي ذاكرة جيلٍ عربي كامل نشأ في تسعينيات القرن الفائت وبداية الألفية، يتردّد اسمٌ واحد كلما صعد صوت المغامرة، أو دمعت عيون الشخصية على الشاشة: فاطمة سعد.
وُلدت فاطمة قدورة سعد في دمشق يوم الأحد، الموافق لـ15كانون الثاني/يناير 1956. نشأت في بيئة دمشقية محافظة، غير أن صوتها كان يتمرّد من خلف الستار، يبحث عن التعبير والتجسيد. بدأ مشوارها المهني في عالم الدبلجة (أو كما كان يُطلق عليه قديماً "التلسين") عام 1978، وذلك من مبنى الإذاعة القديم في دمشق، حيث شاركت في دبلجة المسلسلات الروسية. ثمّ انتقلت تدريجياً إلى العمل في دبلجة الأفلام السورية، قبل أن تجد مساحتها الكبرى ومجدها الحقيقي في دبلجة الرسوم المتحركة.
رحلت فاطمة سعد بهدوءٍ يشبه صوتها، مساء السبت، وأعلنت نقابة الفنانين السوريين وفاتها رسمياً صباح الأحد، عن عمر ناهز الـ 59 عاماً، بعد مسيرة امتدت لأكثر من أربعة عقود من العطاء الفني الصادق والمتواصل.
لقد كانت صوت "ماوكلي" فتى الأدغال، ذاك الطفل الذي ربّته الذئاب في غابة بعيدة، والذي حمل صوته نبرة الوحدة والبطولة والدهشة في آنٍ معاً. لكن حضورها تجاوز ذلك، إذ أدّت عشرات الشخصيات في مسلسلات شكّلت الوعي البصري واللغوي لأكثر من جيل: أبطال الديجيتال، لحن الحياة، القنّاص، كابتن ماجد، هزيم الرعد، أنا وأخي، سلاحف النينجا، وهمتارو، وغيرها الكثير من الإنتاجات التي عرضت على شاشة "سبيستون" وقنوات عربية أخرى.
بعض من الشخصيات التي أدّت فاطمة سعد أصواتها.
لم تكن تؤدّي صوتاً فقط، بل كانت تنقل الأحاسيس بكلّ صدق. كانت توصل الفقد حين يغيب أحد الأصدقاء، الحيرة حين تقف الشخصية أمام خيار مصيري، البهجة الطفولية، وحتى الضحكة العابرة. كل ذلك بنبرة لا تشبه سواها، نبرة "فاطمة سعد" التي كانت، بحق، حجر الأساس في مدرسة الدبلجة السورية.
وبعيدًا عن الاستوديو، شاركت فاطمة في دورتين تخصصيتين في الإخراج الإذاعي في مركز التدريب التابع لاتحاد إذاعات الدول العربية، مما منحها معرفة تقنية عميقة ساعدتها على صقل أدائها. كذلك كانت حاضرة بصوتها أيضاً في أعمال إذاعية شهيرة أبرزها: "حكم العدالة" و"ظواهر مدهشة"، وهما من أنجح الأعمال الدرامية الإذاعية التي قدمتها إذاعة دمشق لسنوات طويلة.
جسدت الراحلة أيضاً شخصية "سمية بنت الخياط" في المسلسل التاريخي "عمر"، لتؤكد أنها لم تكن محصورة في الأداء الصوتي فقط، بل ممثلة تمتلك أدواتها الكاملة.
لكنها بقيت بعيدة عن الأضواء، تفضل أن تُعرف من خلال صوتها، لا صورتها. لم تكن من الساعين إلى المقابلات أو الشهرة، بل من المؤمنين بأن الفن الحقيقي يُصنع في الخفاء، ويظهر في قلوب الناس لا على أغلفة المجلات.
ومع إعلان وفاتها، تدفقت رسائل الحزن والأسى من زملائها في الوسط الفني، ممن عاشوا معها سنوات العمل والطفولة الصوتية المشتركة. كتب الممثل السوري مروان فرحات، الذي شاركها الأداء في كثير من الأعمال: "رفيقة الدرب الغالية... غيابك موجع، لا يُعوّض. اشتغلنا وعشنا معاً سنوات من الحلم والعمل. لن يُنسى صوتك، ولن تُنسى ذكرياتنا".
أما آمال سعد الدين فكتبت عبر إنستغرام":العزيزة الراقية الحنونة... السيدة فاطمة سعد في ذمة الله. الله يرحمك يا حبيبتي. كنتِ أختاً وصديقة وصوتاً لا يُنسى". ونعى أيمن رضا الراحلة عبر صفحته في "فايسبوك" بقوله: "فاطمة سعد في ذمة الله. الله يرحمها والعزاء لأهلها. كانت إنسانة طيبة وفنانة صادقة".
السيناريست رامي كوسا عبّر عن ألم الفقد بقوله: "موجع فقدك.. شكراً لأنك كنتِ شريكة في بدايات حلوة، سأظل أستعيدها كما أستعيد ضحكاتك العريضة التي تملأ الفراغ بهجةً"، في حين كتب قاسم ملحو: "رحيل المبدعة فاطمة سعد، صاحبة الصوت التمثيلي في دوبلاج الرسوم المتحركة، والذي رافق أجيالاً عديدة. ستبقى خالدة في الذاكرة".
لقد كانت فاطمة سعد صوتاً وضميراً فنياً. لم تسعَ إلى البطولة الظاهرة، لكنها كانت بطلة من نوع خاص: بطلة الأثر، بطلة الذاكرة، بطلة الطفولة التي تربّت على نبرتها، فارتبطت أصواتها فينا بمفاهيم الخير، والعدالة، والانتصار، والصداقة.
في زمن تتبدّل فيه الموجات والنجوم، يبقى صوت فاطمة سعد ثابتاً كمنارة على شاطئ الذاكرة، لا تغيب مهما هبّت العواصف. صوتٌ لا يُنسى، حتى وإن انطفأ الجسد، سيظل يتردّد في قلوبنا كلما قال أحدنا: ماوكلي... أوه، لقد كان ذلك صوت فاطمة سعد.
0 تعليق