نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كانّ 78 - "صراط": الطريق إلى الحفل أجمل من الطريق - تكنو بلس, اليوم الخميس 22 مايو 2025 06:26 مساءً
يأخذنا المخرج الفرنسي من أصول إسبانية أوليفر لاشيه في رحلة بصرية وروحية من نوع خاص عبر فيلمه الجديد "صراط"، المشارك ضمن مسابقة مهرجان كانّ السينمائي (13 - 24 أيار). يقدّم لاشيه عملاً يتجاوز حدود السرد التقليدي، ليصوغ تجربة تُقارب معنى العبور والبحث والضياع، مستنداً إلى خلفية ثقافية متعدّدة ومتجذّرة في تربة روحية وفكرية خصبة.
ليس جديداً على لاشيه أن يختار الصحراء مسرحاً لفيلمه، فقد سبق له أن صوّر فيلمه الأول "ميموزا" في المغرب، ما يدل على أن ارتباطه بهذه الجغرافيا ليس عارضاً، بل يتعدّى البُعد المكاني ليصبح عنصراً فلسفياً داخل رؤيته الفنية. الصحراء، هنا، لا تُستخدَم كخلفية محايدة، هي تُستحضر كفضاء يتقاطع فيه التجريد مع الواقع، ويتحوّل فيه الزمن إلى حالة شعورية تتيح للإنسان أن يعيد النظر في مسار وجوده.
بحث وضياع في الصحراء.
يحكي "صراط" قصّة أب إسباني (يؤديه سيرجي لوبيز) ينطلق في رحلة محمومة بحثاً عن ابنته المختفية منذ أشهر. تتردّد شائعة بأنها قد تظهر في "حفل" يُقام في قلب الصحراء، فيقرر الأب، برفقة ابنه، التوجّه نحو هذا الحدث الغامض. ما يبدأ كرحلة مادية، سرعان ما ينقلب إلى عبور روحي داخلي، حيث يكتشف الأب أنه لا يبحث فقط عن ابنته، بل عن ذاته أيضاً، عن خلاص ما، عن المعنى في عالم يتآكل من حوله.
اختيار العنوان "صراط" ليس بريئاً، فالمفهوم المستمد من الثقافة الإسلامية يشير إلى الجسر الفاصل بين الجنّة والنار، لكن لاشيه يعيد تأويله ليصبح تعبيراً عن حالة وجودية معاصرة. يقول المخرج في مقابلة: "ما يهمّني هو المعنى العميق للكلمة، بوصفها طريقاً مزدوجاً: مادياً وروحياً. "صراط" هو ذاك الخط الداخلي الذي يدفعك لأن تموت قبل أن تموت، كما يحدث مع شخصية لويس في الفيلم". في هذا المعنى، يصبح الفيلم أقرب إلى اختبار للقدرة الإنسانية على التغيير، على كسر الحلقة المفرغة من التكرار، وعلى مواجهة الذات في لحظات الضعف القصوى.

سرجي لوبيز وأوليفر لاشيه.
يطرح لاشيه أسئلة صعبة ومباشرة: هل نستطيع، كأفراد ومجتمعات، أن نكسر دوائر الأخطاء القديمة؟ هل يمكن أن نولد من جديد في لحظة انهيار؟ في الفيلم، كما في الحياة، لا توجد إجابات جاهزة. هناك فقط مسارات مفتوحة، واحتمالات كامنة في التجربة ذاتها. عندما تدهم الشخصيات لحظات انهيارها، تتحرّر من قيد الأنا، وتصبح قادرة على عبور مناطقها الداخلية الأكثر ظلمةً. تلك هي ذروة الفيلم الحقيقية: ليس في العثور على الابنة، بل في عبور الحقل النفسي الملغّم، حيث تتكشّف الهوية وتتعرى الحقيقة.
الحفل الذي يشكّل ذروة الحدث ليس احتفالاً بالمعنى التقليدي، بل فضاء صوفي يتحلّق فيه المهمّشون من العالم، يحتفلون بوجودهم، ويتحررون من القوالب الاجتماعية والدينية والسياسية. وعندما تسعى السلطات المحلية إلى فضّ التجمّع، يواصل بعض المشاركين السير نحو منطقة صحراوية أخرى، رافضين العودة إلى "العادي". في هذا القرار، تتجلّى إرادة الانعتاق من السلطة، من المألوف، من الانضباط المفروض. وهنا، يرفض الأب التراجع، ويواصل تتبّع آثارهم، مدفوعاً برغبة خافتة في اللقاء، أو ربما في الفهم.

طاقم العمل في مهرجان كانّ.
لاشيه لا يبحث عن إثارة أو حبكة تقليدية، إنما عن تأثير شعوري. كما يقول في ملاحظاته الفنية: "أردتُ أن يكون الفيلم بمثابة رجّة داخلية، تدفع المُشاهد الى التأمل، لا الى الفهم السردي الخالص. أعتقد أن السينما قادرة على استعادة العلاقة بالأسئلة الوجودية الكبرى التي تم نفيها من مجتمعاتنا". يذهب لاشيه بعيداً في تحليله لواقعنا الراهن، مشيراً إلى أن الإنسان المعاصر يعيش في مجتمع يهاب الموت، يخفيه، يهمّشه، ويُفرغ طقوسه من معناها. من هنا تأتي أهمية "صراط" كفيلم يُعيد الى الموت مكانته الرمزية، بوصفه فرصة للعبور.
لا يمكن تجاهل التأثّر الواضح بأعمال سينمائية وجودية سابقة، خاصةً تلك التي اختبرت العلاقة بين الموت والحياة كما فعل كيارستمي في "طعم الكرز". إلا أن لاشيه يحافظ على صوته الخاص. يستخدم إيقاعاً بطيئاً، متأملاً، يُسخّر الصورة والصوت والمكان لبناء حالة حسيّة معقّدة. الموسيقى نادرة، لكن حضورها حين يأتي، يكون جارحاً، تماماً كما الصمت الذي يملأ الصحراء. في نهاية الرحلة، يدرك المشاهد أن الحفل لم يكن سوى وهم، أو بالأحرى، وسيلة لاكتشاف الحقيقة الأعمق: أن الطريق هو الغاية. أن السير في ذاته، رغم ما يحمله من وجع وضياع، هو ما يخلق المعنى. "صراط" ليس فقط فيلماً عن البحث، بل عن الانخلاع من الذات، عن الاحتراق من أجل بعث جديد، عن رقصة مؤلمة مع الموت تُفضي إلى حياة أكثر صدقاً.
0 تعليق