كانّ 78 – "ألفا" لجوليا دوكورنو: تشريح سقوط - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كانّ 78 – "ألفا" لجوليا دوكورنو: تشريح سقوط - تكنو بلس, اليوم الخميس 22 مايو 2025 06:26 مساءً

كثيرة هي الأفلام المخيّبة هذا العام في مهرجان كانّ السينمائي (13 - 24 أيار). فالخيبة، في طبيعتها، تنبع من التوقّع؛ لا نشعر بها إلا عندما ننتظر تحفة جديدة من صاحب تحفة سابقة، أو على الأقل عملاً يوازي في مستواه ما أنجزه سابقاً، إن لم يتفوّق عليه. وهذا ما حدث لنا مع المخرجة الفرنسية جوليا دوكورنو، الحاصلة على "السعفة الذهب" عام 2021 عن فيلمها الصادم والمستفزّ "تيتان"، الذي أنجزته بعد أن لفتت الأنظار بأول أعمالها الطويلة "خطير"، الفيلم الذي تميّز بطابعه الغثياني.

جديد دوكورنو، "ألفا"، المشارك في المسابقة، لا يعدو كونه امتداداً لما سبق، من حيث الأجواء المشبّعة بالعنف، القسوة، الانحلال الجسدي والنفسي، والعدمية الوجودية. كلّها عناصر يبدو أنها باتت تمثّل ليس فقط هوية دوكورنو، بل طريقتها الوحيدة في التعبير السينمائي. فيلمها يعيد تدوير التيمات المريضة نفسها، لكن ضمن حبكة جديدة، تحت راية ما يُعرف بـ"رعب الجسد"، ذلك النوع الذي ازدهر في الثمانينات، وكان ديفيد كروننبرغ أحد أباطرته.

الجسد هنا ليس مجرد عنصر بصري. ومع ذلك، يبدو أن السيناريو لا يستخدمه إلا كذريعة لإطالة قصّة سرعان ما تفقد تماسكها، وتغرق في التكرار والفراغ. نحن أمام نموذج لما يمكن تسميته بـ"السينما المبتورة"، حيث يتوفّر الشكل وتغيب المعنى. وإذا كان غودار قد قال إن كلّ ما يحتاجه لصنع فيلم هو فتاة ومسدّس، فإن جوليا دوكورنو تثبت العكس: أن شخصية غامضة + اضطرابا نفسيا + ماضيا مأساويا + انسداد أفق، لا تساوي في الضرورة فيلماً جيداً، بل قد لا تُنتج فيلماً على الإطلاق.

 

مؤثّرات بصرية تثقل الفيلم حتى الاختناق.

 

كلّ ما أغوانا سابقاً في أفلام دوكورنو يتحوّل هنا إلى عبء ثقيل، وإلى تكلّف سردي، خصوصاً مع محاولة فرض رمزية قسرية على كلّ تفصيل، حتى حين لا يحتمل السياق ذلك. ما بدا في السابق جرأة وتحريضاً، بات هنا افتعالاً لا يُطاق، وسماجة فنية تتخفّى خلف قناع من الغموض المقصود.

أكثر ما يلفت في "ألفا" ليس القصّة ولا الشخصيات ولا حتى الإخراج، بل بناء الحالة البصرية، تلك الحالة التي تستدعي كابوساً يقظاً نعيشه في وضح النهار. الفيلم يدور في مدينة غير محدّدة المعالم، داخل إطار زمني يوحي بالثمانينات، وإن كان لا يُفصح بوضوح عن حقبة. مدينة منزوعة الجغرافيا والتاريخ، يخيّم عليها تهديد مزدوج: فيروس غامض ينتشر في الهواء، يحوّل المصابين إلى كتل حجرية بعد أن تلفظ رئاتهم كميات من الرمل، وعاصفة رملية حمراء إذا هبّت، كفيلة باجتياح كلّ ما في طريقها.

ضمن هذه الأجواء التي تنذر بانهيار تام، نتعرف إلى أم وابنتها. الأم (غولشيفته فرهاني) طبيبة تعمل في وحدة ميدانية تعجّ بالمصابين، والابنة (ميليسا بوروس)، مراهقة يحمل الفيلم اسمها وتصبح محور السرد. القلق الدائم من إصابتها بالعدوى يغلف المُشاهد منذ اللحظة الأولى، ويشكّل منبع التوتر الأساسي في العلاقة بين الأم والابنة. لكن، وكأن الكارثة الوبائية لا تكفي، يظهر فجأة شقيق الأم (يؤديه طاهر رحيم في أداء هو من أضعف ما قدّمه)، مدمن سابق للمخدرات، على حافة الانهيار النفسي والجسدي، ليضاعف حجم الاضطراب داخل هذا الملاذ الهشّ.

وجوده في حياة المرأتين لا يحمل سوى التهديد والتشويش؛ هو أشبه بشبح ماضٍ مأسوي يعود ليطرق الباب في أسوأ توقيت ممكن. لا يأتي حاملاً خلاصاً أو حكمة، إنما يضيف طبقة جديدة من الفوضى النفسية والعاطفية، في فيلم لا يتوانى عن التراكم: تراكم الكوارث، تراكم الرمزيات وتراكم الضجيج البصري.

مرةً أخرى، وفي إطار برمجة تعكس نزعة رائجة في السينما المعاصرة نحو خلط الأنواع والأنماط من دون السعي الحقيقي إلى انسجام بينها، تقدّم دوكورنو خليطاً غير متجانس من الأفلام داخل فيلم واحد. تبدأ "ألفا" كأنه من أفلام الإثارة الكارثية، تلك التي تُنبئ بنهاية العالم الوشيكة، قبل أن ينزلق نحو دراما المراهقة، ومن ثم يمرّ على أفلام الأوبئة والعدوى، وكأن دوكورنو تنقلنا من جنس سينمائي إلى آخر بلا تصفية حسابها مع ما تتركه خلفها، أو أن تبني فعلياً على ما تقدّمه لاحقاً. كلّ شيء يبدو مجرّد ديكور أو خلفية ظرفية، بيئة حاضنة لتصعيد درامي مكرور، لا روح فيه ولا تطوّر حقيقيا.

 

رحيم، دوكورنو وبوروس في مهرجان كانّ.

رحيم، دوكورنو وبوروس في مهرجان كانّ.

 

ثلاث شخصيات غارقة في أزماتها الخاصة، تغرقنا معها في أحاديث مطوّلة ومكررة ومملّة، حتى يكاد الفيلم يتحوّل إلى رحلة عذاب ممتدة للمُشاهد. وبينما تتحوّل المدينة إلى مسرح لانهيار بيئي ونفسي شامل، يبقى المشترك الوحيد في كلّ مراحل الفيلم — عدا الشخصيات — هو ذلك الشعور الخانق بالرعب الوجودي والاضطراب العقلي، الحاضر في كلّ مشهد وكلّ لقطة. دوكورنو، في ما يبدو، لا تعرف كيف تصنع سينما خارج هذه التيمات. وكأنها أسيرة لرؤية واحدة لا تقوى على التجديد أو التوسّع. وهذا، في ذاته، أمر مؤسف.

تنزلق دوكورنو تدريجاً إلى دراما عائلية ثقيلة تطرح تيمة "الصدمة المتوارثة" أو ما يُعرف بالتروما العابرة للأجيال، مع تركيز واضح على موضوع الأبوة، تيمة سبق أن استثمرتها في أعمالها السابقة. إلا أن المشكلة هنا أن أفراد هذه العائلة لا يملكون أي كاريزما تثير فضول المشاهد أو تعاطفه؛ إنهم كائنات درامية مستهلكة، يغلّفها التصنّع، وتفتقر الى أي عنصر يُضفي عليهم حياة أو عمقاً.

هذا على مستوى الفكرة. أما على مستوى التنفيذ، فيبدو أن دوكورنو (مدفوعة بزخم "السعفة" والاعتراف النقدي الذي نالته في السنوات الأخيرة)، باتت تتعامل مع كلّ مشهد كما لو أنها على وشك أن تصنع منه لحظة خالدة في تاريخ السينما، تحفة لا تُنسى... وهذا الوهم، في حدّ ذاته، كفيل بضمان تراجع الفيلم لقطة بعد أخرى. في الواقع، لا شيء يُمكن تذكّره من "ألفا"، لا مشهد عالقا، لا فكرة تومض، لا أداء يترك أثراً. حتى في أسوأ الأعمال، يمكن انتشال مشهد أو اثنين من الركام. أما هنا، فالركام خالص، متجانس في خوائه.

الاهتمام المفرط بالمؤثّرات البصرية يثقل الفيلم حتى الاختناق، وكأن دوكورنو تصرّ على أن تضعنا تحت عجلات شاحنة ضخمة طوال ساعتين. يُطلب من المُشاهد أن يتعايش مع عذابات الشخصيات، أن يعاني معها بالتوازي، بل أحياناً أن يتألّم أكثر. هذه "الموضة" التي باتت تتكرر في بعض الأفلام، والتي تفترض أن معاناة الشاشة يجب أن تصبح معاناة المُشاهد، صارت منهكة، وتفتقر الى أي مبرر جمالي أو سردي. فأنت لست بحاجة إلى أن تمشي بحذاء ضيق كي تشعر بآلام مَن ينتعله. التعاطف لا يُقاس بكمية الألم المُسقَط على المتلقّي، إنما بعمق المعالجة وصدق التناول. لكن في "ألفا"، يُستبدَل العمق بالإلحاح. في المحصّلة، يوثّق هذا الفيلم لحظة سقوط فنّي صريح: سقوط دوكورنو من الطابق العشرين، بلا مظلة، بلا شبكة أمان، وبلا أي وعد بالبقاء حيّة في نهاية السقوط.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق