نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كانّ 78 - "لتكن مشيئتك": فتنة في الريف الفرنسي! - تكنو بلس, اليوم الخميس 22 مايو 2025 10:08 مساءً
يحمل الفيلم ملامح امتداد فنّي وموضوعي لفيلمها القصير "رأيتُ وجه الشيطان"، الذي حاز جائزة "جان فيغو" المرموقة. في ذلك العمل، كما في هذا، استعانت كوفالسكي بالممثّلة عينها وقدّمت قصّة فتاة تعتقد أنها ممسوسة أو مسكونة، لمجرد أنها تشعر بانجذاب جنسي نحو الفتيات، فتلجأ إلى شخص يطارد الأرواح الشريرة طلباً للخلاص.
المكان في "لتكن مشيئتك" ليس مجرد خلفية، هو شخصية قائمة في ذاتها؛ قرية تتغلّب فيها صرخات البقر والمواشي المريضة على أصوات البشر ورغباتهم المكبوتة. ويا للمفارقة: رغم الركود الظاهري، ستحدث أمور كثيرة في زمن قياسي، من دون أن يمنحنا الفيلم أي إشارات حاسمة حول وجهتها. جيف حيوانات، سوائل لزجة، تراب، وحل، نار... من هذا الطين تعجن كوفالسكي فيلمها، بإخراج منضبط، رصين، وبإيقاع محكم يشدّ المشاهد إلى الحبكة حتى المشهد الأخير.
كما في فيلمها الأول، تعود كوفالسكي، لتغوص مجدداً في عالم شخصيات تتأرجح هوياتها بين ثقافتين: الفرنسية والبولندية. كوفالسكي تقف، حرفياً ووجودياً، في منتصف الطريق بين بلدين لا يشتركان بحدود جغرافية، في مفارقة تلخّص مأزق الانتماء الممزق الذي تسبره في أعمالها. نلتقي نافو (ماريا فروبل)، شابة في العشرين، تحمل قدرات خارقة للطبيعة تعتقد أنها ورثتها عن والدتها الراحلة. قدرات لا تظهر إلا مع احتدام الرغبة، فتُثقلها كإرث غامض مشوب بالخزي. لا تستطيع نافو التخلّص من هذا الارث، كما لا تقوى على الإفصاح عنه. رحيل الأم، التي لا تزال تحضر كطيف في أحاديثها مع الأب، تركها في كنف أسرة يخيّم عليها الجفاف العاطفي، حيث القسوة وسوء المعاملة عنوان العلاقة بينها وبين والدها وشقيقها.
نافو هي الشخصية المركزية المطلقة، وجهها لا يفارق الشاشة، حضورها طاغٍ في كلّ مشهد. تأثيرها، المباشر والضمني، يطال الجميع طوال الوقت. لكن دخول ساندرا (روكسان مكسيدا)، فتاة متمردة وحرة، يقلب الموازين. إشعاع هذه الشخصية الجديدة يفجّر داخل نوفا فتنة تتطور على شكل سلسلة من الأحداث الغرائبية، تتوالى في إيقاع تصادمي ولاهث، يصعد تدريجاً نحو ذروة مشحونة بانفعالات، تُبقي المشاهد مشدود الأنفاس في أكثر من لحظة.
الفكرة الجوهرية هنا، رغم تكرارها في العديد من الأعمال، تظل فاعلة: دخول شخصية أكثر تمكّناً وجرأةً إلى حياة شخصية هشّة، فتدفعها إلى الانقلاب على ذاتها والعالم. لكن هل الضعف الظاهري يدل على هشاشة حقيقية؟
من خلال أفلامها القصيرة، دأبت كوفالسكي على مساءلة علاقتها بوطن أجدادها، بولندا، ومقاربة مواضيع مثل الجنس والعائلة والشباب، مع حضور خافت لكن محسوس للدين في الخلفية. كلّ هذه العناصر تتجمّع هنا، لتشكّل لوحة اجتماعية متشابكة، لا يمتلك الفيلم، للأسف، على مدى ساعة وأربعين دقيقة، ما يكفي من الزمن للتوغّل في تفاصيلها، لكنه يلتقط منها ما يكفي ليصوغ عالماً يذكّر بأعمال برونو دومون "المنحرفة" في الريف الفرنسي — مع عناية بصرية أكبر، ولمسات لافتة، مثل مشهد مطاردة الغزالة في الغابة عقب ليلة صاخبة.
تتبنّى كوفالسكي أسلوباً كلاسيكياً في بناء الفيلم، شكلاً ومضموناً، سواء في السرد أو في تشكيل الصورة. حتى التترات باللون الأحمر المعتم تعزز هذا الخيار الجمالي وتؤكّده. لا بد أن نتذكّر سينما الثمانينات، لمحات من أعمال ديفيد كروننبرغ، أفلام الرعب الجسدي، بل وحتى "الإكزورسيست“ من حيث تناول فكرة الشيطان الساكن في الجسد والذي يظهر بأوجه متعددة.
ننتقل من إحالة إلى أخرى، من دون أن يُخِلّ ذلك بتماسك العمل. بل لعلّ الشعور السائد هو شعور بالوحدة، وحدة الشخصيات ووحدة التجربة. صحيح، لا نفهم كلّ شيء، لا على مستوى الحكاية، ولا على مستوى سلوك الشخصيات ودوافعها. لكن لا بأس، فهذا جزء أصيل من سحر هذا النوع من السينما، والفيلم لا يخجل من إظهاره، بل يحتفي به.
يندمج الفيلم في نسيج مجتمعه وبيئته وثقافته، بحيث يؤدي نزع هذه العناصر عنه إلى تجريده من هويته. وكوفالسكي تدرك هذا جيداً، فهي تمزج بين رؤية سينمائية ذات بُعد كوني، تتغذّى على تأثيرات متنوعة، وعمل فنّي شديد الخصوصية. في إحدى مقابلاتها، تقول: "أنا أعرف الريف البولندي جيداً. أصوّر هناك عمّالاً يشكّلون نماذج مقلقة للرجولة، لكنني أقدّمهم كرموز للرغبة بالنسبة إلى البطلة. إنهم يبدون لي مخيفين، مثيرين، ومؤثّرين في آن معاً".
رغم إصرارها بأنها ملحدة، فكوفالسكي تعترف بانجذاب عميق نحو العوالم الغيبية، واصفةً هذا التوجّه بأنه مسار صوفي يلامس شيئاً دفيناً في داخلها. فهي نشأت في عائلة بولندية ترتبط بالطبيعة ارتباطاً حميماً، حيث كانت النباتات والعلاجات الشعبية – التي لا تخلو من طيف السحر – جزءاً من الحياة اليومية. "كان والدا جدّتي من السحرة، وقد علّمتني جدّتي الكثير من الأمور. حين كنت مراهقة، تلقيتُ تعاليم من ساحرة. أعطتني كتاباً قديماً جداً في السحر الأسود، يمكن من خلاله القيام بأشياء مذهلة". وتختم كوفالسكي بعبارة لافتة تكشف جانباً من علاقتها بالسينما: "أحد أعمدة السحر هو الإيمان بفعاليته وتخيّل ما سيحدث. وهذا، في نظري، يلتقي تماماً مع جوهر السينما“.
0 تعليق