"هجرة العقول" من أميركا: حين تغادر النخبة العلمية قاطرة الابتكار - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"هجرة العقول" من أميركا: حين تغادر النخبة العلمية قاطرة الابتكار - تكنو بلس, اليوم الجمعة 30 مايو 2025 06:30 صباحاً

لم يعد الحديث عن "هجرة العقول" من الولايات المتحدة مجرّد تحذير نظري أو ظاهرة هامشية، بل صار واقعاً ملموساً يعصف بالجامعات ومراكز البحث الأميركية ويهدد موقع البلاد في قلب خريطة الابتكار العلمي العالمي. فبعدما كانت أميركا طوال القرن العشرين وجهة العلماء والمخترعين من العالم بأسره، تشهد اليوم خروجاً عكسياً للنخب العلمية نحو أوروبا وكندا وأوستراليا والصين والخليج مدفوعة بعوامل سياسية واقتصادية وإدارية متراكمة.

في قلب هذه الظاهرة، تأتي سياسات إدارة الرئيس ترامب التي اعتُبِرت، وفق تعبير العديد من العلماء، "حرباً على العلم". لقد أُلغِيت آلاف المنح البحثية، وخسرت مؤسسات بارزة مثل مؤسسة العلوم الوطنية والمعاهد الوطنية للصحة مليارات الدولارات من التمويل. وسُجِّلت خفوضات في التمويل بأكثر من 2.5 مليار دولار منذ كانون الثاني (يناير)، وتوقعت مجلة "إيكونوميست" البريطانية أن يخسر أكثر من 80 ألف باحث وظائفهم. ولا يتوقف الأمر عند التمويل، بل يمتد إلى القيود المفروضة على التأشيرات، وترحيل طلاب وباحثين دوليين، والتضييق على حرية البحوث، وصولاً إلى فرض رقابة على مفردات علمية مثل "النوع الاجتماعي" أو "العدالة الصحية".

هذا المناخ الطارد لم يمرّ مرور الكرام. تشير بيانات "سبرينغر نايتشر"، وهي مؤسسة بحثية علمية بريطانية ألمانية، إلى ارتفاع بنسبة 32 في المئة في عدد الباحثين المقيمين في الولايات المتحدة الذين قدموا طلبات عمل خارج البلاد خلال الفصل الأول من العام مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024. وفي استطلاع أجرته مجلة "نايتشر" البريطانية على أكثر من ألف و200 باحث في أميركا، قال 75 في المئة من هؤلاء إنهم يفكرون في المغادرة. كذلك تراجعت طلبات الطلاب الأوروبيين لمتابعة دراسات عليا في أميركا بنسبة 50 في المئة، بينما ازدادت طلباتهم المماثلة في جامعات أوروبية وآسيوية.

البلدان المنافسة لم تفوّت الفرصة. أطلقت فرنسا مبادرة "ملاذ العلم" بتمويل يصل إلى 15 مليون يورو لاستقطاب علماء أميركيين. وأعلنت الجامعات الكندية عن عشرات الوظائف الجديدة، وتحدثت المفوضية الأوروبية عن دعم إضافي للباحثين "الفارّين". وفي الصين، ارتفعت نسبة عودة علماء الذكاء الاصطناعي الصينيين من الولايات المتحدة بين عامي 2019 و2022 من أربعة في المئة إلى ثمانية في المئة مع تفاقم التوترات التجارية الأميركية- الصينية. حتى أوستراليا والنرويج تناقشان تقديم تسهيلات في منح تأشيرات إلى النخب العلمية الأميركية.

لكن الهجرة العلمية ليست دوماً سهلة. وفق مجلة "ساينس" الأميركية، تعاني العديد من الجامعات في أوروبا وكندا من نقص في التمويل، وتواجه صعوبة في استيعاب العدد المتزايد من الباحثين الوافدين. فقد أعلنت جامعة ماكغيل الكندية، مثلاً، عن خفض مقداره 45 مليون دولار كندي من ميزانيتها، وتسريح أكثر من 250 موظفاً. وفي بريطانيا، تُظهِر التقديرات أن ثلاثة أرباع الجامعات قد تصبح خاسرة بحلول عام 2026.

أما بلدان الخليج، ولاسيما منها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، فتستطيع أكثر من أي بلدان أخرى أن تستفيد من هجرة العقول من أميركا، عبر استقطاب الكفاءات الأكاديمية والعلمية والتقنية لتعزيز مسار التحوّل إلى اقتصادات معرفية. توفر هذه البلدان بيئة جاذبة من خلال تقديم الإقامات الذهبية والحوافز المالية، ما يمكّنها من تسريع تطوير قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والتعليم العالي. وتبرز صروح علمية بارزة في هذا السياق على غرار جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في السعودية، وجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي في الإمارات، ومؤسسة قطر للتربية والعلوم. 

وعلى رغم الترحيب العالمي بالكفاءات الأميركية، يلحق هذا النزيف أضراراً مباشرة بالاقتصاد الأميركي. تشير بحوث إلى أن مغادرة العلماء الولايات المتحدة تقلل القدرة التنافسية للبلاد، وتؤدي إلى انخفاض كبير في معدلات الابتكار والإنتاجية، وتقلص عوائد الضرائب، في حين تزيد من الضغط على الموارد العامة. وعلى صعيد الأثر العالمي، يترك انسحاب أميركا من قيادة البحث العلمي فراغاً لا يسهل ملؤه، إذ لا تملك البلدان المستقبلة قدرة تمويل مماثلة لتعويض فجوة مالية تصل إلى 40 مليار دولار.

وهكذا يتبين أن ما يجري يتجاوز كونه تحولات في السياسات الجامعية أو أزمة تمويل موقتة. إنه تحول في موقع الولايات المتحدة داخل المنظومة العلمية العالمية، وقد يكون بداية تراجع دورها القيادي في إنتاج المعرفة. وإذا استمر هذا المسار، فسيخسر العلم، وسيخسر الاقتصاد الأميركي، وقد يجد العالم نفسه أمام منظومة علمية أكثر تفتتاً، وأقل قدرة على معالجة التحديات الكبرى.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق