صرخة ميخائيل نعيمة إلى لبنان المتعب: اقرأوا مرداد - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
صرخة ميخائيل نعيمة إلى لبنان المتعب: اقرأوا مرداد - تكنو بلس, اليوم الجمعة 30 مايو 2025 10:53 صباحاً

فاروق غانم خداج – كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني

في زمنٍ تزدحم فيه الكلمات وتغيب عنه المعاني، تطلّ إشراقات ميخائيل نعيمة كنبضٍ خافت وسط صخبٍ جافّ، وكأنها همسة تهمّ بها الروح وهي تعبر العتمة. ليست إشراقاته ضوءاً نراه بالعين، بل ومضات تُضاء من الداخل، حين تلامس الحقيقة شغاف القلب. لحظات نادرة توقظ فينا إحساساً بأننا كنّا نعرف، ثم نسينا. كلمات لا تُقرأ، بل تُرتشف؛ لا تُفهم بالعقل، بل تُسكن في القلب العطش إلى المعنى.

ومرداد، الذي كتبه نعيمة بالإنكليزية عام 1948 ثم نقله بنفسه إلى العربية، ليس رواية تقليدية، بل سفرٌ روحيّ يتجاوز الشكل ليصل إلى الجوهر. يُروى على لسان تلاميذ في دير جبلي يتلقّون تعاليم الحكمة من رجل مهيب النظرة، ساكن الكفّ، يُدعى مرداد. رجل لا يعلّمهم الكلام، بل يدعوهم إلى الإصغاء لما لم يُقل بعد. تتردّد على لسانه الأسئلة الأزلية: من نحن؟ ما الغاية من وجودنا؟ كيف نحرّر أنفسنا من الخوف والزمن والتعلّق؟

في كلّ صفحة من صفحات مرداد، ينهض نعيمة برسالة لا إلى جماعة أو طائفة، بل إلى الإنسان أينما كان. دعوة إلى أن نرتقي بالحياة لا أن نهرب منها، وأن نعي أن الزمان والمكان لا يقيّدان إلا من يرى نفسه مقيّدًا. "أنتم لستم ما تملكون، ولا ما تُظهرون، بل ما تعرفونه من سكينة في صميم الكينونة"، يقول مرداد، وكأنه يخاطبنا نحن، نحن أبناء اللحظة المتعثّرة، الباحثين عن معنى في المجهول.

وفي تأملٍ عميق، يدعونا مرداد إلى تجاوز الطقوس والمظاهر، لأن العبادة الحقة ليست في الشكليات، بل في الصدق والمحبة والعمل. الله لا يُلتمس في المعابد فحسب، بل في كل نفس طاهرة، وفي كل فعل يضيء. الكلمة عند مرداد ليست أداة نقل، بل طاقة خلق، يقول: "كلمتك هي أنت، فارفعها إلى العلياء." وهي دعوة صريحة لأن نزن ما ننطق، لأن الكلمة التي تصدق تبني، وتلك التي تخون تهدم.

وإذا كان الناس ينظرون إلى الموت كهاوية، فإن نعيمة يقدّمه في مرداد كتحوّل، لا نهاية. الموت ليس انقطاعاً، بل عبور نحو وضوحٍ أعمق. هو المعلّم الذي يذكّرنا بقيمة اللحظة، وبأن الحياة ليست مُلكاً، بل أمانة، وعلينا أن نعيشها لا كمُستهلِكين بل كمضيئين.

نعيمة لا يهاجم الدين، بل يدعو إلى تجاوز الانقسامات نحو جوهره: محبةٌ صافية، وعقل متحرّر من التعصّب. لا ينكر قداسة الأديان، بل يرى أن قدسيتها تنبع من الإنسان الذي يحبّ، لا يكره، يعلو، لا يستهلك.

ومن العبارات التي تبقى عالقة في الذهن، تلك التي يقول فيها مرداد: "أنتم كلكم مرداد، وأنتم كلّكم قائلون كلمته، فقولوا قولة مرداد." إنها ليست مجرد دعوة للتكرار، بل لإحياء الكلمة فينا نحن، أن نكون رسلًا لمعنى لا يموت.

مرداد كتاب لا يُقرأ مرة واحدة، بل مراراً. وفي كل قراءة، يتسع أفق، ويخفت صخب، ويعلو صوت الداخل. هو ليس نصّاً بقدر ما هو مرآة، تُريك وجهك حين كنت صادقاً مع ذاتك، وتذكّرك بقلبٍ نسيت أن تُنصت إليه.

ولعلّ لبنان، الجريح من داخله قبل خارجه، أحوج ما يكون اليوم إلى مرداد. ليس بوصفه عزاء، بل يقظة، وبوصفه نداء يذكّرنا أن ما ينقذ الشعوب ليس الجدل، بل القدرة على الإصغاء للحقيقة في أعماقها.

اقرأوا مرداد، لا لتعرفوا ميخائيل نعيمة، بل لتكتشفوا أنفسكم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق