نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أسوار القسطنطينية في 29 أيار 1453 وصباح اليوم التالي! - تكنو بلس, اليوم الأحد 1 يونيو 2025 12:30 مساءً
*المحامي كارول سابا
أسوار القسطنطينية. فجر اليوم التالي. "البعض لا يزال ينتظر الكاهن الذي كان يُقيم القداس الإلهي عند توثب الانكشاريين في كاتدرائية آيا صوفيا ذلك اليوم (٢٩ أيار 1453) والذي التجأ داخل حائط أحد أسوار البازيليك، من خلال باب قيل إنه أصبح غير مَرئي. هذا البعض لا يزال ينتظر الكاهن ليظهر مُجدداَ ويُتابع حيث توقفت احتفالية القداس الإلهي التي انقطعت عندها".
هذه الكلمات هي في كتاب المؤرخ الفرنسي سيلفان غوغنهايم، القسطنطينية 1453، الذي استضفته في برنامجي الشهري "الأرثوذكسية الان وهنا" على التلفزيون الكاثوليكي الفرنسي. كتابه (دار "بيران" الفرنسية المعروفة مع وزارة الدفاع الفرنسية، مجموعة "ساحات المعارك") يُوثِّق بالخطط والتفاصيل الحربية والقيادية والمجتمعية كل حيثيات المعركة وإدارتها ويوميَّاتِها التي دامت ٥٥ يوما حول أسوار القسطنطينية، واستبسل فيها نحو ٧٠٠٠ مقاتل بيزنطي دفاعا عن المدينة المتملكة، وعلى رأسهم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر، الذي فُقِد ذاك اليوم في وسط المعركة وهو يَؤُمّْ جنوده مُحاربا والسلاح بيده.
أسوار القسطنطينية. فجر اليوم التالي. طلعت الشمس سحراً. باكراً. وكأنها مُهَروِلة. راكِضة، مُسرعة، مُتهيِّبَة ومُتأهِّبة، وكأنها بأمر من شمس الحق كانت تريد أن تمسَح بأشعتها الدافئة والنقية ظلامية تلك الليلة ونهارها، حيث سالت أنهار من الدموع، وفاضت فيضانات من الدماء، وتفجرت انفجارات المآثم وتدنست كل المقدسات في نهار سقوط المدينة المتملكة في ٢٩ أيار ١٤٥٣ التي تعتبر أهم زلزال جيوسياسي لا تزال تداعياته إلى اليوم.
أسوار القسطنطينية. فجر اليوم التالي. الخيل هائِمة على أرض المعركة، تائهة فقدت غربها وشرقها، وضاعت بوصلة شمالها عن جنوبها. خيول الحرب والخراب، لا تزال تزأر من مَرض خيَّالتها، ولا تزال تدمع مِما ارتكبت أيديهم مِن مآثِم. طلعت الشمس على الأسوار، والأرض ما زالت ثكلى، هي ومن على سطحها من بشر، ثكلى بالألم والآلام. أرض القسطنطينية، التي تشرَّبت على مد العصور رائحة البخور العَطِرَة، الخارجة من جمرة الإيمان المشتعلة، المستقيمة، المُنيرة والمُستنيرة، التي رسمت بأنوارها المقدسة نار جماليات حضارية في اللاهوت والأيقونة والأنغام والعمارة الهندسية والفكرية والثقافية على أنواعها، وما زالت تفعل إلى اليوم في نهضة الغرب والشرق معا. هذه الأرض أمست في ذلك النهار وفي تلك الليلة، مُستباحة مَحقونة ومُدجَّجة بروائح أتون المعركة التي اشتعل سعيرها، برائحة البارود والزيت المشتعل وناره التي تأكل الأخضر واليابس، وكل عقل وقلب وصلاة.
أسوار القسطنطينية. فجر اليوم التالي. الدخان المُتصاعِد من مَداخن أرض المعركة المحروقة والمحترقة، غطّى فيها وجه الأرض. دخان غازي، ومُرتبِك بحياء في آن واحد، أمام عظمة هذا المكان. الدخان كان لا يزال في صبيحة ذاك اليوم يتراقص فوق عشب الأرض، الذي كان يترطَّب يوميا من دفق الندى الصباحي، أي بدموع الرب اليومية المسكوبة علينا بحب وحنان. هذا الندى كان يتدفق في الموسم الربيعي الذي يلي أنوار الموسم الفصحي، موسم القيامة، حيث تتفتَّح كل الأوراق وتُزهِر كل الأزهار، وتُوَرِّد كل الورود، تَرَطَّب هذا العشب، في تلك الليلة، وفي فجر صباحها، بأنهار الدماء التي تفجرت وسالت وغطت وجه الأرض بإثمها.
أسوار القسطنطينية. فجر اليوم التالي. الأشعة الشمسية الدافئة ظهرت بِسُكون صباحاً، بالرغم من الضجيج وصراخ آلام الليل الأسبق. ظهرت الأشعة الدافئة لتشطر جدار ذاك السكون الآخر، سكون الموت ومرارة طعمه وألوان دمائه الداكنة. سكون هذا الموت الذي خيَّمَ على ظهر الأرض الطيبة والخلاقة، بعد ضجيج الخيل في الليل، وصوت الحديد والنار، وصراخ الآلام، آلام مَن قَتَل وآلام من قُتِل. ظهرت أشعة شمس الحق وسارعت إلى المكان، كأنها دواء يتساقط من السماء لتُبلسِم جراحات تصرُخ وتنتحِب وتتفجَّع، جراحات تتألم وتتأمل، جراحات على ألمها ما زالت تسمع في عمق أعماق سمعها وضميرها، نغمة تلك الترتيلة القيامية التي زفَّها السيد من قبره لوالدته لتشديدها: "لا تنوحي علي يا أمي إذا شاهدتني في قبر، أنا ابنك الذي حبلت به في أحشائك بلا زرع، لأني سأقوم وأتمجد، وأعلي مشرفا الذين بإيمان وشوق يعظمونك."
أسوار القسطنطينية. فجر اليوم التالي. قبل ذاك اليوم بعقود كثيرة وقرون كثيرة، جبهت أسوار القسطنطينية حصار الآبار، وحينها هَبَّ البطريرك القسطنطيني سيرجيوس في ٦٢٦، هو الذي كان مولجاً من الإمبراطور هيراكليوس الذي كان يحارب الفرس خارج القسطنطينية، للدفاع عن العاصمة الإمبراطورية أمام هجمات "الآبار" الذين حاصروا المدينة. فأقام سرجيوس الصلوات على أسوارها والزياحات، رافعا أيقونة السيد وأيقونة السيدة المعروفة بأيقونة البلاشيرن العجائبية. فكسبت المدينة المعركة. ويُقال في تداوين الخصوم، إن زعيم الآبار كان يُشاهد سيدة جميلة القامة تتمشى بسلطان، على أسوار المدينة. بعد النصر كتب البطريرك سيرجيوس لها، ما سُمِّي بعد ذلك نشيد القسطنطينية: "إني أنا مدينتك يا والدة الإله" الذي كان لا يزال يثقب آذان المهاجمين في ٢٩ أيار ١٤٥٣. وقع الصليب أرضا لكنه لم يسقط، ولم ينكسر، ولم يختف وجهه ووهجه. وفي اللحظة التي انتشر فيها على أرض المعركة هذا الدخان الممزوج برائحة البارود والنار والموت الدافِق، بدأ يتصارع مع أشعة شمس الحق، في اشتباك صراع الحق والباطل المستديم إلى اليوم.
أسوار القسطنطينية. فجر اليوم التالي. دخل الفاتح، السلطان محمد الثاني، لكنه لم يفتَح. دخل الغازي، لكنه لم يغزُ. فكل الدِراسات والتداوين، تقول إنه قَبْل المعركة وقع في حب بيزنطيا والقسطنطينية التي جذبته بكل ما فيها من جماليات أرضية، جماليات دهرية وسلطان قوة وقوة سلطان، جذبته بكل هذا، ولم تكن لتجذبه أيضا بهذا العشق، لو لم يكن فيها جماليات سماوية أيضا، هي التي جذبته سريا وأراد استكشافها وأن يضع يده عليها!
ويُقال إنها كانت بتوهجها هذا قد أمست "هَوَسَهُ" الدائم، يحلم بها ليلا وفي العين المستفيقة، هذه المدينة التي أرادها له لأنها مُتملِّكة، لأنها قطعة من السماء المنظورة وغير المنظورة، أرادها له لأنه بدونها لا يظهر كمُتمَلِّك، ولا كسلطان البر والبحار. فبدونها لا شيء، ومعها كل شيء. وهكذا عندما دخلها تشرب منها ولبس لباسها وتمنطق بها.
أكثر من أي يوم مضى، في ظل التفكك الذي يعيشه العالم الأرثوذكسي، والمآزق الدهرية التي تتجاذبه، والأزمات التي تلاحقه، نقول بالفم الملآن إن لسقوط القسطنطينية في ١٤٥٣ أسبابها الموجبة الروحية والكنسية والمجتمعية، وعلى الأرثوذكس أن يقرأوها جيدا، ويقرأوا علامات الزمان التي فيها، ليس كما فعلوا منذ ذاك الوقت إلى اليوم، بحيث جعلوا من لاهوت التجسد الإلهي لاهوتا سياسيا سياقيا وهم يتألقون اليوم بتجليات هذا اللاهوت الدهري السياسي.
كتاب غوغنهايم مليء بحيثيات السياق التراجعي في المجتمع البيزنطي قبل سقوط القسطنطينية، وسياق الشوق التقدمي الذي كان يتقدم به السلطان الغازي نحوها. فهو عشقها وتقدم إليها. وهي خانت ذاتها وتركها الغرب لتسقط. بالتالي لم يكن سقوط القسطنطينية خسارة، بل تجربة روحية كبيرة للمستقيمي الرأي ليُدركوا ما هم مدعوون إليه بالأمس، بعد سقوط المدينة المتملكة، واليوم، أي التحدي الروحي الذي لا يزال ينتظرهم! الخروج من مناهج "الإيمان المسيحي الهَويَّاتي" الذي أسقط القسطنطينية ولا يزال يفكك الأرثوذكسية، والعودة إلى شهادة "هوية الإيمان المسيحي" من دون التعلق بأي دهريات وسلطات وإمبراطوريات.
راية القسطنطينية لم تهوَ حين سقوطها. قلتها في مجمعنا المقدس الأنطاكي مرارا، وأذكِّر بها في كل مناسبة. هناك مجتمعات تموت قبل أن تُقتل. مهمة القسطنطينية لم تنتهِ حينها! فمهمتها هي ألا تكون مملكة دهرية، تتزيَّن بكل الألوان الدَهرية من سلطات ونفوذ وثياب مُطرزة بخيوط الذهب التي كانت للإمبراطور وورثها عنه البطاركة والأساقفة! ولا أن تكون مطارح حضارات ولغات وعمارات وجغرافيات تبتعد عن مهمة الكنيسة الوحيدة في هذا العالم، أي أن تكون كنيسة البشارة وكنيسة بشارية بحوكمتها وتحركها، لا كنائس متمسكة بسلطاتها وجغرافيتها فتُمسي كنيسة تُحيي "النَفَسْ الإداري" وتقتل "النَفَسْ البشارية".
القسطنطينية كانت المدينة المُتملكة لأنها من الملك مُنحدرة، وهي له، إن بقيت له. فكما أن هناك أورشليم العلوية وأورشليم الأرضية، كذلك الأمر مع القسطنطينية، فهي لا تبقى المدينة المتملكة إلا إذا بقيت شاهدة للقسطنطينية العُلوية.
ولتحديات اليوم في أنطاكية وسوريا ولبنان، وحولها وإلى أقاصي المعمورة، نقول ونسأل، هل تحارب العين المِخرز؟ نعم، إذا كانت هي عين الحق، وإذا كان في تلك العين بصيرة استقامة من العُلى ومِن العَلِيّ. لأن المخرز لا يَرى، تُحَرِّكُه الغريزة، ويُعميه عدم القدرة على رؤية الحق. أما عين الحق، فإذا استقامت على شهادة الحق والمحبة، شهادةً لسيدها، فهي تُسقِط كل اضطهاد وكل أخطارٍ، دهرية كانت أو مجتمعية. المشكلة ليست مشكلة عدد يا سادة. بل مشكلة نوعية وجرأة مستقيمة. فهل نقدم على العودة إلى البشارة على قطع رأسنا، فنستحق حينها، حقا، الصفة الرسولية؟
0 تعليق