نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
إعادة تأثيث البيت العربي من الداخل - تكنو بلس, اليوم الخميس 12 يونيو 2025 04:05 صباحاً
صبيحة الثاني من آب / أغسطس عام 1990 دُق آخر مسمار في نعش الدولة القومية في العالم العربي. صحيح أن انهيار الوحدة بين سوريا والعراق عام 1961 بعد أربع سنوات من قيامها كان المؤشر الأهم إلى فشل الفكر السياسي القومي في مسعاه لدمج دول خرجت لتوها من مظلة الاستعمار في كيان سياسي واحد، غير أن الصحيح أيضاً أن كل المحاولات اللاحقة للاقتراب من فكرة دولة الوحدة، ومنها مجلس التعاون العربي الذي ضم العراق ومصر والأردن واليمن، لم تخرج عن إطار المقاربة الرومانسية التي لم تأخذ في الاعتبار العوامل المركزية الدافعة لتأسيس تلك الدول وبنية المجتمعات المتباينة بواقعها الاجتماعي والاقتصادي والثفافي، بعيداً من العاطفة والأناشيد والمرويات التي تصدر عن حماسات موقتة.
فات حملة الفكر الوحدوي أن يتنبهوا إلى الفشل الذي مني به جمال عبد الناصر على رغم أنه حظي بإعجاب جماهيري واسع النطاق لم يحظ به زعيم عربي قبله. لم يفشل لأن السوريين تآمروا عليه وعلى دولة الوحدة فحسب، بل لأن وحدته كانت تقوم على أساس استيلاء الأخ الأكبر على إرادة الأخ الأصغر واستقلاله ومصادرة حريته. كانت تلك الوحدة تقوم على الإلحاق والتبعية ولم تكن مجالاً حيوياً يتفاعل من خلاله الأطراف مع مصائرهم برؤية جدلية قابلة لكل أنوع الاختلاف والحوار والمراجعة. بطريقة أو بأخرى، فإن العراق حين ضم الكويت إلى أراضيه بالقوة أعاد عقارب الساعة إلى الوراء عشرين سنة حين فوجئ عبد الناصر أن عسكرة الوحدة كانت سبباً في انهيار واحد من أهم أسس عالمه الشخصي. لا أريد هنا أن أساوي بين ما فعله ناصر وما فعله الرئيس العراقي، غير أن الدافع في جوهره في ما فعله الرجلان يظل واحداً. ذلك الدافع يمكن تلخيصه وإن بطريقة تبسيطية بالضم.
من الرومانسية إلى الاستبداد
عام 1958 ضمت مصر سوريا إليها مثلما ضم العراق دولة الكويت إليه عام 1990 واعتبرها محافظة عراقية. ولو عدنا إلى أسباب انهيار دولة الوحدة المصرية - السورية لا بد من أن نُصدم بسلوك العسكر المصري الذي كان يقوم على اعتبار سوريا محافظة مصرية. ليست المقارنة بين التجربتين مهمة الآن بقدر النظر بعين نقدية إلى حجم الفشل الذي انطوى عليه الفكر السياسي القومي، الذي كان يخبئ في الجزء الخلفي منه أحلاماً رومانسية بالوحدة، في الوقت الذي كانت أطماع السلطة هي التي صنعت تفاصيل المشهد المرئي الذي يمس حياة الناس العاديين. ذلك ما يعيدنا إلى المسافة الكبيرة التي تفصل ما بين المنطلقات النظرية التي هي عبارة عن إنشاء بلاغي يصل إلى درجة اللامعنى، وبين سلوك عنفي مباشر يحمل بين طياته نبرة القصاص أو العقاب.
فشل القوميون في أن يحولوا نظرياتهم إلى واقع معاش، وفي المقابل فإن ما فعلوه على أرض الواقع أكد أن فكرتهم عن العروبة السياسية لا علاقة لها بالعروبة الثقافية، كما أنها تعبّر عن فهم متخلف ورثّ وبدائي لمفهوم الدولة الحديثة في إطارها غير الأحادي، الكونفيدرالي أو الفيدرالي على حد سواء. هل كانت المشكلة تكمن في ضيق الأفق الحزبي الذي استقرت فيه فكرة الوحدة العربية؟ شيء من ذلك القبيل يمكن النظر إليه من جهة تأثيره غير المباشر، غير أن روح الاستبداد التي تمكنت من زعماء الأنظمة القومية كان لها أكبر الأثر في شل حيوية التفكير القومي، ذلك لأنها صادرت حريته إضافة إلى أنها عبثت بكرامة المؤمنين به. كان الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي يملك مشاريع خيالية للوحدة العربية غير أنه كان في الوقت نفسه يفكر بالطريقة نفسها التي وهبته صفة ملك ملوك أفريقيا. واقعة يمكن أن تقتصر على إطارها الهزلي لو لم تتعلق بمصائر الشعوب.
حقائق ثابتة وليست أوهاماً
قام مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه عام 1981 على أساس التعاون الحر والمتكافئ بين دوله، بعدما كانت المملكة العربية السعودية ومن حولها دول المجلس الخمس الأخرى قد راقبت بحذر تداعيات المشروع القومي العربي. لم يكن لها يد في انهياره على رغم أن مفهومها العرقي والثقافي للعروبة، لا ينسجم إطلاقاً مع منطلقات ذلك المشروع النظرية التي كانت هي الأساس لقيام سلطة الاستبداد التي احتكرت تمثيله كما لو أنه بضاعة جاهزة. لقد سعت قيادات في دول المجلس إلى الحؤول دون مضي النظام العراقي عام 1990 في اتجاه نزع الغشاء عن الكذبة، لا لشيء إلا لأنها كانت تخشى على العراق من تداعيات ذلك الحدث الكارثي. ولكن الأمور سارت بعكس ذلك المسعى.
اليوم بعد مضي خمس وثلاثين سنة على انهيار ذلك المشروع، تستعيد دول المجلس وفي مقدمها السعودية والإمارات المبادرة لا لتفرض رؤيتها بل لتتماهى مع شعورها بالمسؤولية وهي ترى أن الحطام الذي انتهت إليه التجارب القومية لا يصنع تاريخاً يليق بالأمة. وليس مقبولاً بالنسبة الى القيادتين أن تنفتح السعودية والإمارات على العالم بثقة وقوة من غير أن تكون هناك قاعدة عربية، يُمكن من خلالها الكلام الجاد عن عالم عربي يقرر سياساته بعقلانية ونضوج وفهم عميق لشروط العلاقة مع الآخرين، والتي هي مزيج من المصالح الاقتصادية والتلاقحات الثقافية والتفاهمات السياسية والتأثيرات الاجتماعية.
لذلك، فإن السعودية والإمارات في حركتهما الديبلوماسية الدولية لا تتقدمان باعتبارهما ممثلتين للعالم العربي بأسلوب سياسي يغلب عليه طابع الاحتكار، بقدر ما تحاولان إقناع الآخرين بضرورة أن يحترموا ذلك العالم. ذلك ما بدا واضحاً في تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الدولتين والتي دعمها بسلوكه المتوازن الذي كان مدعاة لغضب إسرائيل. الحقيقة التي لم يتفاعل معها مراهقو القومية العربية صارت اليوم أكثر وضوحاً. السعودية الحديثة ومنذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وإلى جانبها الإمارات الحديثة منذ تأسيسها على يد الشيخ زايد آل نهيان، كان لهما ثقل معتبر في عالم السياسة المعاصر. وهما من منطلق ذلك الثقل لا تتعاملان مع حقيقة عالم عربي واحد باعتبارها بضاعة جاهزة قابلة للتعليب، بقدر ما تريان في الدول العربية التي تشفى من أمراضها القديمة مصدر دعم لهما في تفاهماتهما مع الدول الكبرى التي لم تتخل عن أطماعها في نهب ثروات العالم العربي. بهدوء وبشعور عميق بالمسؤولية إزاء التاريخ تعمل السعودية والإمارات معاً على تأثيث البيت العربي بمصادر قوة مستلهمة من حقائق ثابتة وليست أوهاماً.
0 تعليق