نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
صراع الأرواح بين الأرقام_ همس من أرض الأحلام المنسية - تكنو بلس, اليوم الأربعاء 18 يونيو 2025 10:08 صباحاً
ليا ابراهيم
كيف للأرقام المدونة على صفحاتٍ باهتة أن تمارس هذه السلطة المطلقة على أرواحٍ غضّة؟ هي ليست مجرد حبرٍ على ورق، بل هي أحكامٌ مبرمة، تُلقي بظلالها الكثيفة على فجر كل مصيرٍ ينتظر أن ينبلج. أن تكون هنا، في هذه البقعة من الأرض، هو أن تسير في متاهةٍ عتيقة، جدرانها تتراصّ ببطء، وحيث كلّ بابٍ يُظنّ أنه مخرجٌ يُفضي إلى جدارٍ آخر. ذاك المسعى، الذي كان يُفترض أن يكون قنديلًا يُنير الدروب، غدا كاهلاً ثقيلاً، يُثني الظهر ويكسر الأجنحة. كيف لعقلٍ نضرٍ أن يزهر، أو لروحٍ حرةٍ أن تحلق، حين تُخاضُ المعارك ذاتها كلّ يوم، مع كتبٍ لا تنتمي إلينا، ومعلمين يشاركُوننا التعب ذاته، وربما اليأس ذاته؟ الفاجعة الكبرى تكمن في أن هذا الميزان، الذي يزعم أنه يقيس عمق أرواحنا، لا يقيس إلا قدرتنا على استيعاب ما قُدّم، لا على الفهم العميق أو التفكير الحر الذي يحرّر الروح.
تخيل طفلاً، أُتيح له أن يُولَدَ بتركيبٍ خاصٍّ لعقله، يمكّنه من رؤية العالم بألوانٍ مختلفة، أو سماع نبضه بإيقاعٍ فريد. هذه ليست خطيئة، بل هبة، أو ربما تحدٍّ جليل. لكنها هنا، في هذا النظام العجيب، تتحول إلى كارثةٍ مدوية. لا دفءَ يدٍ تمتدُّ للدعم، لا نظرةً فرديةً تكتشفُ المكنونات، فقط مطالبُ صمّاء تُلقى على الجميع سواسية. وهكذا يُسجنُ ذلك الطفلُ العبقريُ، الذي يحملُ في داخله عالماً من الإبداع، في قالبٍ لا يُجيد احتواءه، ويُجبَر على خوض سباقٍ لم يُهيّأ له بشروطه القاسية. والمحصّلة؟ قلبٌ مثقلٌ بالإحباط، شعورٌ دائمٌ بالعجز، وتحطّمٌ لثقةٍ لمّا تتجذّر بعد. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالأرقام المتدنية تلتصق به كوشمٍ أبدي، تُترجم خطأً إلى جوهر ذاته، كأنّ الذكاء يُمكن أن يُلخّص في 'علامة' واحدة على ورقةٍ هامدة. إن هذا لظلمٌ فادحٌ وتهديدٌ لأجيالٍ بأكملها، تُقيّدُ إمكاناتهم قبل أن يلمسوا حتى طيف ما يمكنهم أن يكونوا.
الضغط ليس محصوراً بين جدران الفصول، بل يتسلل إلى عتبات البيوت، حيث الأمهات، يا للسخرية المريرة، قد يتحولن إلى قضاةٍ صغار، مدفوعاتٍ بقسوة هذا الميزان التعيس. "لماذا لم تكن أكثر تميزاً؟"، "انظر إلى ذاك، كيف حصدَ كلّ المجد!". هذه الكلمات ليست سوطاً يحفز، بل أوتاراً تُعزفُ عليها لحنَ الذنبِ والعجزِ في نفوسٍ صغيرة. إنهن يفعلن ذلك لأن المجتمع، بضغوطه الهائلة، يفرض عليهن هذا المعيار، لكن الثمن باهظٌ: تدميرٌ خفيٌّ للرابط المقدس بين الأم وطفلها، وتحويلُ التعلمِ من رحلةٍ مبهجةٍ إلى عبءٍ ممقوت. يرتبطُ جوهرُ وجودنا، كبشرٍ يحملون قلوباً ومشاعرَ وقدراتٍ فريدة، بما نحصل عليه من أرقام. كأنك قطعةٌ في آلةٍ لا روحَ فيها، لا كائناً حياً ينبضُ بالحياةِ والإمكانات. كيف لنا أن نبني مستقبلاً يُشرقُ، إن كنا نُنتجُ أجيالاً مهزومةً من الداخل، مُحطّمةَ الروحِ قبل أن تتفتّحَ؟
لقد دقت الساعة لتنتفض أرواحنا، لتبني صرحاً تعليمياً جديداً، صرحاً يتناغم مع إيقاعِ تنميةِ الروحِ البشريةِ بكلّ أبعادها. يجب أن يُعادَ التركيز على الرحلة الفردية للتعلم، على اكتشاف كنوز المواهب الخفية، على صقل مهاراتٍ تُعين على الحياةِ بحبٍّ وشغف، لا على مجردِ حشوِ الأذهانِ بالمعلوماتِ الجافة. يجب أن يكون هناك فضاءٌ رحبٌ لأولئك الذين يسيرون على دروبٍ مختلفةٍ في التعلم، لندعمهم ونُمكّنهم، لا لنتركهم يتخلفون عن قطارِ الحياةِ السريع. يجب أن نُدرك أن النورَ يتلألأُ بأشكالٍ شتى، وأن القدرةَ على استظهارِ حوادثِ الماضي لا تعني بالضرورةِ أنك ساحرُ عصرك، وأن من لا يُجيدُ ذلك ليس غارقاً في الظلام. يجب أن يكون التعلمُ شرارةً تُشعلُ الخيالَ، تُشجعُ على الطيرانِ في سماءِ التفكيرِ الحرّ، على طرحِ الأسئلةِ التي تهزُ العروشَ، وعلى الإبداعِ الذي لا يعرفُ حدوداً.
إننا في أمسِّ الحاجة إلى ثورةٍ جذريةٍ في طريقةِ تقييمِ الأرواحِ الصغيرة. بدلاً من تلك الأرقامِ الصمّاءِ، يمكننا أن نتبنّى سُبلاً للتقييمِ أكثرَ رحمةً وشموليةً، مثل المشاريعِ التي تنبعُ من شغفِ الطالب، والعملِ الجماعيّ الذي يُنمّي الروحَ التعاونية، والتقييمِ الذاتيّ الذي يُعلّمُ التأملَ، ومراقبةِ تطوّرِ الروحِ على مدارِ الأعوام. يجب أن يكونَ التعلمُ رحلةَ اكتشافٍ لا سباقاً قاسياً نحو أرقامٍ قد لا تعكسُ شيئاً عن جوهرِ الطالبِ الحقيقيِّ أو كنوزِ قدراته. إن استمررنا على هذه الدربِ الوعرة، فإننا نُفقدُ جيلاً بعد جيل، ونُساهمُ في تفكيكِ نسيجِ مجتمعنا بدلاً من بناءِ صرحٍ شامخٍ له. حلمُ التعلمِ النقي، الذي يُزهرُ الروحَ والعقلَ معاً، ليس سراباً، لكنه يتطلبُ إرادةً حقيقيةً للتغييرِ، وأن ننظرَ إلى الطالبِ لا كوعاءٍ للمعلوماتِ، بل ككائنٍ حيٍّ يستحقُ كلَّ فرصةٍ ليزدهر. هذا هو الأملُ الوحيدُ لكسرِ قيودِ هذا السجنِ، ونسجِ قصةٍ جديدةٍ لأرواحٍ تُعانقُ الحياةَ بحريةٍ وشغف.
0 تعليق