خمسون عاماً: صراع مستمر وتحديات إعادة التأسيس - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
خمسون عاماً: صراع مستمر وتحديات إعادة التأسيس - تكنو بلس, اليوم السبت 12 أبريل 2025 05:37 صباحاً

د محمد عوده


يمثل مرور خمسين عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية لحظة تأمل في أحد أعقد صراعات المنطقة، حيث لا تزال آثاره العميقة ماثلة في النظام السياسي، وأنماط التفكير، وضعف الدولة، وفقدان المشروع الوطني. يتطلب فهم هذه الحرب العودة إلى الأطر النظرية لتفسير أسبابها واستمرارها بعيداً عن السرديات الإعلامية أو التأريخ السطحي للأحداث.

 

فمنذ نشأتها، اتسمت الدولة اللبنانية بضعف بنيوي متجذّر، إذ تأسست على قاعدة "ميثاق وطني"، مثّل تسوية طائفية هشّة لم تُفضِ إلى بناء مؤسسات وطنية قادرة على تجاوز الانتماءات الأولية نحو الهوية الجامعة.

 

وقد أسهم هذا التوافق، وإن وفر تمثيلاً سياسياً متوازناً نسبياً، تكريساً للطائفية كنظام حكم دائم بدلاً من التعامل معها كمرحلة انتقالية، ما عزّز الولاء للطائفة.

 

يندرج هذا النموذج في إطار "الدولة الفاشلة جزئياً". الدولة التي تبقى قائمة من حيث الشكل المؤسساتي، لكنها تعجز عن احتكار العنف المشروع، وفرض السيادة الكاملة على أراضيها، وبناء سردية وطنية موحّدة. وقد برزت ملامح هذا الفشل في عجز الدولة عن رأب الانقسامات العمودية، والانقسام الهوياتي بين اتجاهين أحدهما يتبنى رؤية محايدة أو منفتحة على الغرب، والآخر يرسّخ انتماء لبنان إلى محيطه العربي.

 

يتقاطع هذا الانقسام مع نظرية الصراع حول الهوية، التي تؤكد أن المجتمعات التي تفشل في التوصل إلى تعريف جامع للهوية الوطنية تكون أكثر عرضة للصراعات الداخلية العنيفة، خصوصاً إذا ترافقت مع تباينات دينية وثقافية عميقة يصعب التوفيق بينها دون مشروع وطني شامل.

 

الحروب الأهلية بين المظلومية والفرصة

 

تُظهر نظرية المظالم أن الحرب الأهلية اللبنانية نشأت من شعور جماعي بالغبن والإقصاء في ظل نظام محاصصة غير عادل وغير قابل للإصلاح. أما نظرية الفرصة فتُبرز أن هذا الشعور وحده لا يكفي لنشوب الحرب، بل يتطلب هشاشة مؤسساتية، انقساماً داخل النخب، وتدخلاً خارجياً، وهي عوامل اجتمعت كلها في لبنان السبعينيات، ممهّدة الطريق لانفجار الصراع المسلح.

 

الدولة كغنيمة لا ككيان جامع

 

مثّلت الحرب الأهلية اللبنانية صراعاً على الدولة بوصفها غنيمة طائفية لا كياناً وطنياً جامعاً. كل طرف سعى لاحتكار القرار، السردية، والموارد. لكن الصراع لم يكن داخلياً فقط؛ فقد تداخل مبكراً مع بيئة إقليمية مستقطبة جذبت الأطراف اللبنانية إلى محاور متناقضة.

 

وتعددت التدخلات الخارجية:

 

• سوريا تدخّلت عسكرياً وأدارت اللعبة السياسية لاحقاً.

 

• إسرائيل اجتاحت لبنان عام 1978 ثم 1982.

 

• إيران دخلت المشهد بعد الاجتياح، مؤسِسة لمعادلات جديدة.

 

• والقوى الدولية استثمرت الصراع في سياق الحرب الباردة.

 

فأصبحت الدولة اللبنانية، بدلاً من أن تكون المرجع الوطني والإطار الجامع، ساحة للصراعات الداخلية ومسرحا لتصفية الحسابات الخارجية بأيدٍ لبنانية، مما أدى إلى تجريدها من جوهرها السيادي والمؤسساتي.

 

استمرار الانقسام

 

رغم اتفاق الطائف، بقي لبنان يعاني من انقسامات بنيوية مزمنة. وفق نظرية الولاءات المتضادة، يتوزع ولاء الأفراد بين الطائفة والزعيم والمحاور الإقليمية.
أُعيد إنتاج الطائفية كمكوّن مؤسسي لا مجرد مكوّن اجتماعي، فتحوّلت إلى مرجعية للحماية ولهوية وأدى ذلك إلى هشاشة الدولة وعجزها عن بسط سيادتها.

 

هذه الأزمة الداخلية تعززت بالتدخلات الإقليمية والدولية، حيث تحوّل لبنان إلى ميدان تنافس بين أطراف إقليميه ودولية مرة جديدة من خلال دعم مباشر لفصائل طائفية.

 

أما التهديد الإسرائيلي فقد توظف كعامل يُعيد تصنيع الهشاشة الداخلية. فبدلاً من توحيد الجبهة اللبنانية، كرّس منطق المقاومة خارج الدولة، وعمّق الاعتماد على قوى غير رسمية.

 

النتيجة تقوية الكيانات المسلحة وارتباط الأمن الطائفي بمحاور خارجية متضاربة مما جعل لبنان بالتالي رهينة شبكة من الولاءات المتصارعة والتدخلات الخارجية والتهديدات المستمرة. وبدلاً من أن تدفع التحديات الخارجية نحو وحدة وطنية، كرّست الانقسامات، وشرعنت الأمن الذاتي، وأبقت الدولة ضعيفة عاجزة.

 

يؤدي هذا التفاعل بين الولاءات المتضادة، التدخلات الخارجية، والعدو الخارجي إلى إنتاج حلقة مفرغة: فضعف الدولة وانقسامها يدفعان الفئات إلى البحث عن حماة من الخارج، وهو ما يُشرّع التدخلات ويضاعف من الانقسام. وفي هذا السياق، تصبح الدولة اللبنانية رهينة لتوازنات هشة وإملاءات متضاربة، غير قادرة على اتخاذ قرارات سيادية، ولا على ضبط أمنها أو تنظيم شؤونها الاجتماعية والاقتصادية.

 

وفي ظل هذا الواقع، يبقى مفهوم "الدولة الوطنية" غير مكتمل، بل ومتنازعاً عليه، وتظل مؤسسات الدولة عاجزة عن تمثيل اللبنانيين، أو عن توفير الحماية والخدمات، أو حتى فرض القانون. وبدلاً من أن تكون الدولة حاضنة للجميع، أصبحت طرفاً هشاً بين أطراف أقوى.

 

نهاية حرب أم تعليق للدولة؟

 

لم يؤسّس اتفاق الطائف لدولة مدنية حديثة، بل أعاد إنتاج النظام الطائفي ضمن تسوية دستورية مؤقتة تحوّلت إلى نظام هش دائم. فنصّ على إصلاحات لكنه لم يقرنها بآليات تنفيذ أو جدول زمني، مما حوّلها إلى وعود مؤجلة بلا مسار تطبيقي. فحمل أربع تناقضات بنيوية كبرى:

 

1. مواطنة شكلية لا فعلية: تقاسم السلطة أبقى الانتماء السياسي مرهوناً بالهوية الطائفية.

 

2. تم تأجيل إلغاء الطائفية السياسية دون خارطة طريق.

 

3. شرعنة مقاومة خارج الدولة أسس لغموض العلاقة بينهما.

 

4. تنفيذ الاتفاق جرى تحت رعاية إقليمية، ما كرّس التبعية.

 

نتيجة نظام ما بعد الحرب، حكومات متعثرة بفعل "الميثاقية" و"الثلث المعطّل". شلل دستوري متكرر وتضخم نفوذ الزعامات الطائفية المعززة خارجياً، وانكشاف سيادي أمام التدخلات الإقليمية والدولية.

 

بهذا المعنى، لم يكن الطائف نقطة "إعادة تأسيس"، بل محطة "إعادة ضبط". لقد أوقف القتال، لكنه لم يُنهِ أسبابه البنيوية. أنهى الحرب، لكنه لم يُنهِ مسبباتها، ولم يؤسس لعقد اجتماعي جديد. لبنان يعيش منذ ذلك الحين في منطقة رمادية بين اللاسلم واللاحرب، وبين الدولة الصورية والكيانات الطائفية الواقعية فيبقى الاستقرار هشاً والانهيار ممكناً.

 

-المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.

أخبار ذات صلة

0 تعليق