نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
نصف قرن على الحرب اللبنانيّة: لحظة مصارحة وطنيّة من أجل مصالحة شاملة - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 15 أبريل 2025 12:35 صباحاً
جميل جورج كرم
مرت خمسة عقود على اندلاع الحرب اللبنانية، تلك الحرب المدمّرة التي يعرف الجميع كيف بدأت، لكن لا أحد يمكنه الجزم بأنّها قد انتهت حقّاً.
ما زالت جذور الحرب تنبض في تفاصيل حياتنا اليومية، في انقسامنا السياسي والطائفي، في ذاكرة جماعية لم تَشفَ بعد، وفي نظام سياسي لا يزال عاجزاً عن التغيير. تتجدّد مع كلّ ذكرى سنوية الجراح، التي لا تلتئم وتظل تذكّرنا بأنّ الماضي لم يُطوَ بعد.
لكن، وسط سواد تلك الحقبة، تلمع بعض القصص التي تعكس ما تبقى من إنسانيتنا. لن أنسى تلك الليلة من خريف 1975، عندما كانت الحرب في بداياتها. في وقت كان الخطف والقتل المتبادل في أوجّه، وكانت البيوت تُحرق فقط لأن أصحابها ينتمون إلى طائفة أخرى، أمضينا ليلتنا في منزل أم إبراهيم، جارتنا، التي لم يكن لديها سوى قلبها الكبير وموقف أخيها، الذي نشر رجاله حول المبنى لحمايتنا. كان ما فعله أقوى من أيّ هوية أو انتماء. في صباح اليوم التالي، رافقنا إلى أقرب معبر آمن وحرص على سلامتنا. لم يكتفوا بذلك، بل حافظ الجيران على منزلنا كما هو طيلة فترة غيابنا القسري عن المدينة. هذه القصة، بكلّ بساطتها وصدقها، تضيء شمعة في ظلام الحرب ومآسيها وويلاتها. قد أكون محظوظاً لأنني أكتب قصتي بنفسي ولكن ماذا عن أولئك الذين لم تُسْنَح لهم فرصة رواية قصصهم؟ ماذا عن الضحايا الذين غابت أسماؤهم في سجلات الذاكرة الانتقائية؟ وماذا عن الأحياء الذين ما زالوا يدفعون ثمن حرب لم يشاركوا فيها؟
لن يتم طي صفحة الحرب بخطب ولا شعارات، بل بمواجهة صريحة مع الذات ومع التاريخ. علينا أن نتصالح مع ماضينا بكل تفاصيله، وأن نسمح لأنفسنا ولغيرنا بسرد ما حدث، بكل أوجاعه وتناقضاته. علينا أن نبحث عن قصص مشابهة لتلك التي عشتها، قصص تُثبت أن التعايش لم يكن مجرد شعار بل ممارسة يومية، حتى في أحلك الظروف.
لكي نتمكن فعلاً من طيّ صفحة الحرب، لا يكفي أن نتمنى السلام، بل علينا أن نسلك طريقاً شجاعاً يبدأ ببناء ذاكرة وطنية مشتركة، تُنصف الضحايا بعيداً عن التبرير أو التجميل. إن العدالة الانتقالية، بما فيها من محاسبة ومصارحة، تشكل خطوة أساسية في هذا المسار، خاصة عندما نواجه، بشجاعة وصدق، قضية المفقودين والمخفيين قسراً، ونسعى لكشف مصيرهم وإنصاف أهلهم. فلا مصالحة ممكنة في ظل إنكار الوجع أو دفن الحقيقة.
إن طيّ الصفحة يتطلب مصارحة صادقة حول ما ارتكب من جرائم بحق بعضنا، ليس من خلال السلاح والتهجير وحسب، بل أيضاً من خلال خطاب الكراهية والإقصاء بسبب الدين أو الطائفة أو حتى الرأي. نحن بحاجة إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي اللبناني على أساس المواطنة، لا الطائفة، وعلى الانتماء إلى وطن واحد، لا إلى زواريب منفصلة.
إن الخروج من زمن الحرب إلى آفاق السلام يتطلب منا أن نتبنى ثقافة السلام كمشروع وطني يتجذر في مجتمعنا بكل مكوناته السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية وغيرها، وفي قلوبنا ومعتقداتنا. يجب أن نزرع قيم التعايش والتسامح والحوار في مدارسنا وجامعاتنا وفضاءاتنا العامة. فلا يكفي أن ندين الحرب، بل علينا أن نربي أجيالاً لا تراها مجداً ولا تعتبرها خياراً. فالحرب ليست بطولة ولا مغامرة مجانية كما يتصور البعض.
لن نصمت في مواجهة أيّ شكل من أشكال العنصرية أو التفرقة، بل سيكون صوتنا دائماً دفاعاً عن قيم الوحدة الوطنية والديموقراطية والمساواة. لا مكان للتقسيم في وطننا، ولا مكان للخطاب الذي يقسمنا إلى "من يشبهنا" و"مناطقهم ومناطقنا". هذه ليست مجرد عبارات، بل مؤشرات على وطن يموت فينا كل يوم لأننا عجزنا عن استبدال لغة الانقسام بلغة المواطنة.
في الذكرى الخمسين للحرب اللبنانية، نضيء شمعة لذكراها ولشهدائها من مختلف الانتماءات السياسية الذين ضحوا بحياتهم من أجل رؤيتهم للبنان. نضيء شمعة للمصالحة والمغفرة، فبدونهما لا يمكننا نسيان مآسي الحرب، ولا يمكننا تعلّم دروسها. كما قال غسان التويني يوماً في كلمة ألقاها في جامعة البلمند: "التاريخ يعيد نفسه عند الشعوب غير المتحضرة"، داعياً إيانا لأن نكون مختلفين، أن نختار طريق المصارحة والمصالحة بدلاً من العودة إلى دائرة العنف والدمار. لنكن نحن الخيار المختلف، الخيار الذي يعزز المصالحة ويكتب تاريخ لبنان الجديد، تاريخ يتسع للجميع ويسهم في بناء وطن يقوم على التسامح والمساواة والحرية واحترام الاختلاف ووحدة المجتمع.
-المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
0 تعليق