الشراكة بين القطاعين العام والخاص: رافعة للتنمية المستدامة والاندماج المجتمعي - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الشراكة بين القطاعين العام والخاص: رافعة للتنمية المستدامة والاندماج المجتمعي - تكنو بلس, اليوم الأحد 27 أبريل 2025 09:25 صباحاً

د. إلهام الشحيمي

 

في عالم يتسم بتحولات جيوسياسية متسارعة، وتحديات مناخية وبيئية متفاقمة، وفجوات تنموية مستمرة، يبرز التعاون بين القطاعين العام والخاص (PPPs) أداة استراتيجية لا غنى عنها. لم يعد هذا التعاون مجرد خيار، بل ضرورة حتمية لمواجهة الأزمات المتعددة وصياغة مستقبل أكثر استدامة ومرونة وإنصافًا للجميع. [1]

 لم تعد قيمة هذه الشراكات تُقاس فقط بمدى كفاءتها في التمويل وتنفيذ مشاريع البنية التحتية، بل بقدرتها على أن تكون منصات للابتكار والتعاون المتكامل، قادرة على حشد الطاقات والموارد لتحقيق أهداف مجتمعية أوسع، تتماشى مباشرة مع أجندة 2030 وأهداف التنمية المستدامة [2] (SDGs)، مع تركيز متزايد على معايير البيئة والمجتمع والحوكمة[3] (ESG) وتوجيه التمويل نحو التحولات الخضراء والرقمية العادلة.  

 

تمتلك الحكومات الدور الأساسي في تحديد الأولويات الوطنية ووضع الأطر السياسية والتنظيمية، وضمان حماية المصلحة العامة. في المقابل، يوفر القطاع الخاص ديناميكية الابتكار، والخبرة التكنولوجية، والكفاءة التشغيلية، والقدرة الحاسمة على الحشد وتوجيه استثمارات ضخمة قد تعجز الميزانيات العامة وحدها عن توفيرها، ولا سيما في ظل الضغوط المالية المتزايدة والحاجة الماسة إلى زيادة الاستثمار في رأس المال البشري والمادي لمواجهة تباطؤ النمو طويل الأمد [4]، وعندما تتضافر هذه الجهود ضمن أطر شراكة شفافة وعادلة ومصممة بعناية، يمكن تحقيق قفزات نوعية نحو تعزيز التنمية الاقتصادية الخضراء والشاملة، ورفع جودة الخدمات الأساسية، وترسيخ الاندماج الاجتماعي، والتعجيل في التحول نحو مستقبل منخفض الكربون وقادر على التكيف مع التغيرات المناخية [5].

 

كيف تتجسد هذه الشراكة الفاعلة على أرض الواقع، خصوصا في بناء مجتمعات أكثر شمولاً وقدرة على الصمود؟ وما الآليات المبتكرة التي تضمن مساهمتها الفعّالة في تحسين حياة الأفراد، ولا سيما الفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا، في عالم يواجه تحديات متعددة الأوجه؟  

 

التعاون المتجدد: تكامل وابتكار

 

يقوم نجاح الشراكات الحديثة بين القطاعين العام والخاص على مبادئ التكامل وتقاسم المخاطر والمنافع بطريقة منصفة ومدروسة، والتركيز المتزايد على تحقيق "القيمة مقابل المال" بمعناها الشامل الذي يدمج الأبعاد الاجتماعية والبيئية، جنبًا إلى جنب مع الاعتبارات الاقتصادية، وضمان توافقها مع أهداف التنمية الوطنية والمستدامة[6].

 

يتجاوز هذا التعاون النماذج التقليدية ليشمل طيفًا واسعًا من الترتيبات المبتكرة، بما في ذلك الشراكات الموجهة نحو تحقيق الأثر (Impact PPPs)، ومشاريع التمويل المختلط (Blended Finance)  التي تدمج التمويل العام والتنموي مع الاستثمار الخاص لتحفيز المشاريع ذات الأثر العالي، بالإضافة إلى المبادرات التي يقودها القطاع الخاص لتحقيق أهداف عامة ضمن أطر تنظيمية داعمة ومعايير واضحة للأثر الإنمائي [7].

 

يتيح هذا النهج التكاملي والمرن الجمع بين القدرة التنظيمية والتوجيهية للحكومات، وخبرة القطاع الخاص في إدارة المشاريع المعقدة بكفاءة، وتطبيق التقنيات الرقمية والذكية، وتوفير التمويل اللازم لمواجهة التحديات الكبرى مثل: تطوير بنية تحتية مستدامة وذكية (طاقة متجددة، نقل كهربائي، شبكات مياه وصرف صحي ذكية، بنية تحتية رقمية شاملة)،[8] وتقديم خدمات صحية وتعليمية مرنة وعالية الجودة قادرة على الوصول إلى الجميع، وتعزيز الأمن الغذائي والمائي، ودعم التحول الصناعي الأخضر [9].

 

التنمية المجتمعية: مستقبل مستدام ومرن

 

عندما تتضافر جهود القطاعين العام والخاص بهدف واضح لخدمة المجتمع وتحقيق الاستدامة، تكون النتائج ملموسة وتحويلية. في مجال البنية التحتية، على سبيل المثال، تقدر الفجوة الاستثمارية العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بتريليونات الدولارات سنويًا، وهو ما لا يمكن سده بالتمويل العام وحده. هنا، تبرز الشراكات كآلية حاسمة لتوجيه رأس المال الخاص نحو مشاريع البنية التحتية الخضراء والمستدامة التي تعزز النمو الاقتصادي وتحسن جودة الحياة وتحمي البيئة  [10] كما نشهد نماذج شراكة مبتكرة في تطوير البنية التحتية الصحية، لتعزيز التأهب والاستجابة للأوبئة المستقبلية، وتوسيع نطاق الحلول الصحية الرقمية، ودعم النظم الصحية الأولية، وهي مجالات تتطلب تعاونًا وثيقًا بين القطاعين  [11]

 

دور الإدماج: ضمان الالتحاق بالعصر الرقمي

 

تتحقق التنمية المستدامة مع ضمان الإدماج الاجتماعي والاقتصادي الشامل لكل فئات المجتمع. يظل مبدأ "عدم ترك أحد خلف الركب" هو حجر الزاوية لأجندة 2030، ويقتضي ذلك تصميما وتنفيذا للشراكات بطريقة تضمن وصول فوائدها للفئات المهمشة والمستبعدة، مع التركيز خصوصا على المساواة بين الجنسين، وتمكين الشباب، والأشخاص ذوي الإعاقة، والمجتمعات الريفية والنائية، ويتطلب ذلك نهجًا متكاملًا للحكومة بأكملها والمجتمع بأسره [12] .

 

يتزايد اقتناع القطاع الخاص بأن التنوع والشمول ليسا فقط قضية أخلاقية، بل هما محرك للابتكار والأداء الأفضل. يمكن الشراكات مع الحكومات والمؤسسات التعليمية أن تدعم برامج التدريب والتأهيل الموجهة لتلبية حاجات سوق العمل المستقبلية، مع التركيز على تزويد الشباب والنساء والفئات المهمشة المهارات الرقمية والخضراء المطلوبة، وربطهم بفرص عمل لائقة في القطاعات الواعدة  [13]

 

أحدثت الشراكات بين شركات التكنولوجيا المالية والمؤسسات المالية التقليدية والجهات التنظيمية ثورة في الوصول إلى الخدمات المالية. وتستمر الموجة الأحدث من الخدمات المالية الرقمية (DFS) التي تتيحها الشراكات المبتكرة في تمكين الملايين حول العالم من الوصول إلى المدفوعات والائتمان والتأمين والادخار عبر منصات رقمية[14]، بما يعزز قدرتهم الاقتصادية ومشاركتهم في التنمية، ويتطلب بنية تحتية رقمية قوية غالبًا ما تتطور عبر شراكات أيضًا [15] .

 

المبادرات المجتمعية: الشراكة من أجل الأثر

 

إن فاعلية الشراكات لا تقتصر على التعاون بين المؤسسات الكبرى، بل تتطلب إشراكًا حقيقيًا وهادفًا للمجتمعات المحلية والمستفيدين النهائيين في جميع مراحل دورة حياة المشروع، وهو مبدأ أساسي لضمان استجابة التنمية للحاجات الفعلية وتعزيز الملكية المحلية [16]. وعندما تنبع الحلول من فهم عميق للسياق المحلي وتشارك المجتمعات في تصميمها وتنفيذها ومراقبتها، فإنها تكون أكثر استدامة وتأثيرًا وتحظى بقبول وملكية مجتمعية أوسع. 

 

تؤكد التوجهات العالمية الحديثة أهمية النهج التشاركي والمتكامل في تخطيط المدن وإدارتها، لضمان عدم ترك أحد خلف الركب في البيئات الحضرية. يمكن الشراكات بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني أن تدعم مشاريع تطوير حضري تضع حاجات السكان، وخصوصا الفئات الضعيفة، في صميم عملية التخطيط والتنفيذ[17]  .

 

تستمر أهمية تعزيز الرعاية الصحية الأولية والعاملين الصحيين المجتمعيين كخط دفاع أول، وهو ما يتطلب دعمًا مستمرًا عبر شراكات فعالة توفر التدريب والتكنولوجيا والأدوات اللازمة لضمان استمرارية الخدمات الأساسية وربطها بالنظام الصحي الأوسع، بما يتماشى مع الأولويات الصحية العالمية [18] .

 

قياس النجاح: التركيز على الأثر والاستدامة

 

لضمان تحقيق الأهداف المرجوة وتعظيم القيمة المجتمعية، تحتاج الشراكات إلى أطر قوية للرصد والتقييم تركز على قياس الأثر الفعلي والمستدام، متجاوزة المقاييس المالية الضيقة[19]  .يتزايد التوجه نحو استخدام مؤشرات أداء رئيسية (KPIs)  مرتبطة مباشرة بأهداف التنمية المستدامة ومعايير ESG، ودمج هذه الاعتبارات في تقييمات الجدوى واتخاذ القرارات الاستثمارية، كما تدعو لذلك أطر التمويل المستدام الحديثة  [20]. يُعدّ إشراك المستفيدين في تقييم أثر المشاريع أمرًا ضروريًا لضمان صدقية النتائج وفهم التأثيرات غير المتوقعة. كما أن وجود آليات تقييم مستقلة يعزز الشفافية والمساءلة ويساعد على استخلاص الدروس المستفادة للمشاريع المستقبلية، وهي ممارسة تتبناها المؤسسات التنموية الرائدة  [21]

 

إن الشراكة بين القطاعين العام والخاص ليست مجرد أداة تمويلية، بل هي نهج استراتيجي طويل الأمد يتطلب التزامًا سياسيًا قويًا، وبيئة تنظيمية مواتية، ورؤية مشتركة لتحقيق تحول اقتصادي واجتماعي وبيئي مستدام [22] من خلال توظيف نقاط القوة لدى كل طرف بفاعلية. يمكن هذه الشراكات أن تساهم في بناء اقتصادات أكثر مرونة وتنافسية، ومجتمعات أكثر عدالة وتماسكًا، وكوكب أكثر صحة للأجيال الطالعة. تتطلب مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين تضافر جهود الجميع: الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والأوساط الأكاديمية، والمجتمعات المحلية، ضمن شراكات هادفة وموجهة نحو تحقيق أثر ملموس.

 

 دعوة لتعزيز الشراكات التحويلية

 

يؤدي التعاون الفعال بين القطاعين العام والخاص دورًا حاسمًا في تعجيل وتيرة التنمية المستدامة وتعزيز الاندماج الشامل[23]. ولكي تحقق هذه الشراكات كامل إمكاناتها التحويلية، يجب أن تُبنى على مبادئ راسخة من الشفافية الكاملة، والمساءلة المتبادلة، والحوكمة الرشيدة، والمشاركة المجتمعية الفعالة، والتركيز الثابت على تحقيق نتائج مستدامة وقابلة للقياس وموجهة نحو خدمة الإنسان والكوكب  [24].

 

إن التحديات العالمية المعقدة تتطلب حلولاً مبتكرة وشجاعة جماعية. فلنعمل معًا، صناع سياسات، وقادة أعمال، ومستثمرين، ومبتكرين، ومواطنين، لتعزيز الشراكات الهادفة وتجاوز العقبات، وبناء مستقبل أكثر استدامة وازدهارًا وإنصافًا للجميع.

 

 


[1] United Nations Department of Economic and Social Affairs (UNDESA). (2024). Financing for Sustainable Development Report 2024: Financing for Development at a Crossroads. New York: United Nations. 

[2] Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD). (2023). ESG Investing and Climate Transition: Market Practices, Issues and Policy Considerations. Paris: OECD Publishing. (  ESG).

[3] Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD). (2023). ESG Investing and Climate Transition: Market Practices, Issues and Policy Considerations. Paris: OECD Publishing. (  ESG).

[4] World Bank Group. (2024). Falling Long-Term Growth Prospects: Trends, Expectations, and Policies. Washington, DC: World Bank. (      PPPs).

[5] Global Infrastructure Hub (GI Hub). (2023). Infrastructure Monitor 2023. Sydney: GI Hub. (    GI Hub

[6] World Bank Group. (2022). Public-Private Partnerships Reference Guide Version 3. Washington, DC: World Bank

[8] International Energy Agency (IEA). (2023). World Energy Outlook 2023. Paris: IEA. (  2024).

[9] ITU (International Telecommunication Union). (2023). Measuring digital development: Facts and Figures 2023. Geneva: ITU

[10] Climate Policy Initiative (CPI). (2023). Global Landscape of Climate Finance

[11] World Bank Group. (2024). Disease Surveillance and Epidemic Preparedness: World Bank Engagement. Washington, DC: World Bank.

[12] United Nations. (2024). Summit of the Future - Pact for the Future (Zero Draft). https://www.un.org/en/summit-of-the-future/pact-for-the-future

[13] World Economic Forum (WEF). (2024). Building Trust through Transparency: A Framework for Responsible AI Development and Deployment

[14] Alliance for Financial Inclusion (AFI). (2024). Policy Catalysts for Women's Financial Inclusion. (

[15] World Economic Forum (WEF). (2024). Building Trust through Transparency: A Framework for Responsible AI Development and Deployment. Geneva: WEF

[16] GSMA. (2024). State of the Industry Report on Mobile Money 2024. London: GSMA.

[17]   UN-Habitat / Egyptian Government. (Ongoing). Preparations for the Twelfth Session of the World Urban Forum (WUF12), Cairo, 4-8 November 2024. https://wuf.unhabitat.org/

[18] World Health Organization (WHO). (2024). Executive Board documents (e.g., EB154) discussing priorities like PHC, pandemic preparedness. https://apps.who.int/gb/e/e_eb154.html

[19] Global Reporting Initiative (GRI). (Ongoing Updates, relevant for 2024). GRI Standards. https://www.globalreporting.org/standards/

[20] OECD. (2024). Global Outlook on Financing for Sustainable Development 2024. Paris: OECD Publishing.

[21]   Independent Evaluation Group (IEG), World Bank. (Ongoing, evaluations published in 2024). Recent Evaluations. https://ieg.worldbankgroup.org/evaluations

[22] United Nations Conference on Trade and Development (UNCTAD). (2023). World Investment Report 2023. Geneva: UNCTAD

[23]  OECD. (Ongoing, guidance relevant for 2024). OECD Guidelines for Multinational Enterprises on Responsible Business Conduct. Paris: OECD Publishing

[24] UNECE. (Ongoing, promoted in 2024). People-first PPPs. https://unece.org/ppp

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق