أوروبا التائهة - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أوروبا التائهة - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 20 مايو 2025 01:13 صباحاً

تجد أوروبا نفسها في وضع جيوسياسي حرج؛ فبعد اعتمادها طويلاً على الولايات المتحدة في أمنها العسكري، وروسيا في الطاقة، والصين في سلاسل التوريد الحيوية، تواجه الآن علاقات متدهورة مع القوى العالمية الثلاث الكبرى. في الوقت نفسه، تتزايد الانقسامات الداخلية في القارة، وتفتقر القيادة إلى الرؤية، ويستمر الركود الاقتصادي. هذه الضغوط المتزامنة تضع أوروبا على حبل جيوسياسي مشدود خطير، يهدّد استقلالها السياسي واستقرارها الاقتصادي وتماسكها الاجتماعي. 

 

أساساً، يتعرّض التحالف عبر الأطلسي، الذي لطالما اعتُبر حجر الزاوية في الأمن والسياسة الخارجية الأوروبية، لضغوط متزايدة. فقد أدّت سياسات الحماية التجارية الأميركية، وتغيّر الأولويات الاستراتيجية، وتذبذب صنع السياسات، إلى تآكل الثقة. وبينما تحث واشنطن أوروبا على التحالف ضد الصين وروسيا، فإن إجراءاتها الأحادية غالباً ما تتجاهل المصالح الأوروبية. وهذا يخلق معضلة لأوروبا: هل تبقى حليفاً وفياً أم تسعى إلى استقلالية استراتيجية أكبر؟ في المقابل ازدادت علاقة أوروبا بالصين تعقيداً. فرغم أن الصين لا تزال شريكاً اقتصادياً حيوياً، أدّت المخاوف بشأن اختلالات التجارة، وقضايا حقوق الإنسان، والمنافسة التكنولوجية، إلى تراجع الثقة المتبادلة. وتحت ضغط الولايات المتحدة، تجد أوروبا صعوبة في تحديد موقفها من الصين، إذ تنظر إليها كشريك ومنافس وتهديد محتمل في آن واحد، بينما وصلت العلاقات بين أوروبا وروسيا إلى مستوى العداوة. فما كان يوماً ما شراكة صعبة لكنها فعّالة، تحوّل إلى مواجهة تُذكّر بالحرب الباردة. 

 

أدّى الاحتكاك المتزامن بين أوروبا والولايات المتحدة والصين وروسيا إلى مأزق استراتيجي. فهي عالقة بين التبعية والصراع، عاجزة عن رسم مسار مستقلّ. كما أن الانقسامات المتفاقمة بين الدول الأعضاء تُضعف قدرة أوروبا على العمل الجماعي. يدعو البعض إلى تحالف أوثق مع الولايات المتحدة، بينما يدفع آخرون نحو استقلالية أكبر. هذا الغياب للإجماع يحول دون بلورة سياسة خارجية موحدة. علاوة على ذلك، تبدو المؤسسات الأوروبية غير مؤهلة لمواجهة التحديات الطويلة الأمد. تهيمن الحسابات السياسية القصيرة الأجل على عملية صنع القرار، وتتجه السياسات بشكل متزايد نحو القيم الأيديولوجية بدلاً من التقييمات العملية. 

 

لكن أكثر التطورات إثارةً للقلق هو اندفاع أوروبا نحو العسكرة. فمع خططها لإنفاق ما يصل إلى 800 مليار يورو على الدفاع في ظل تباطؤ النموّ، يتساءل الكثيرون عن جدوى تحويل الموارد الشحيحة بعيداً عن الابتكار والبنية التحتية الخضراء والبرامج الاجتماعية، لا سيما أن ألمانيا، التي كانت في السابق المحرّك الاقتصادي للقارة، تعاني من ركود اقتصادي. وقد يؤدّي المزيد من الإنفاق العسكري إلى تفاقم الصعوبات الاقتصادية، وتأجيج السخط العام، وإرهاق أنظمة الرعاية الاجتماعية الهشة.

 

في الوقت نفسه، تتراجع الولايات المتحدة عن دورها القيادي العالمي التقليدي. سياساتٌ مثل "أميركا أولاً"، والحروب التجارية، والقومية الاقتصادية تُهدّد اقتصادات أوروبا المعتمدة على التصدير. بعد أن كانت حليفاً موثوقاً به، تبدو الولايات المتحدة الآن متقلبة وغير مُتوقعة، وتُركز على مصالحها الذاتية، وهذا يُضعف الروابط عبر الأطلسي أكثر فأكثر. وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن أوروبا تُخاطر بأن تصبح طرفاً سلبياً في الشؤون العالمية، مُعسكرةً ولكن بلا دفة استراتيجية، راكدة اقتصادياً، ومُجزأة اجتماعياً. فزيادة الإنفاق الدفاعي دون رؤية استراتيجية أوسع لن تحلّ المشكلات الكامنة، بل قد تُفاقم عدم المساواة، وتُؤجّج الاحتجاجات، وتُضعف التماسك الاجتماعي. 

 

تقف أوروبا عند مفترق طرق تاريخي. ويعتمد مستقبلها على قدرتها على تجاوز انقساماتها الداخلية، وإعادة تقييم أولوياتها الاستراتيجية، وبناء علاقات أقوى وأكثر توازناً مع القوى غير الغربية، لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وبناء حضور عالمي أكثر توازناً. ربما يسمح لها هذا التحوّل بتعزيز استقلاليتها، وتجاوز إدارة الأزمات، وصياغة سياسة خارجية قائمة على المصالح المشتركة بدلاً من الأيديولوجيا. كما يمكن أن يعزز الوحدة الداخلية التي تشكل أكبر تهديد وجودي للقارة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق