كفن المعنى: تفكيك الأسطورة بين العدم والقلق في عمل إيلي بورجيلي - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كفن المعنى: تفكيك الأسطورة بين العدم والقلق في عمل إيلي بورجيلي - تكنو بلس, اليوم الخميس 22 مايو 2025 07:58 صباحاً

 ريمون أبو حيدر

 

 

يقدم المقال تحليلاً نقدياً تأملياً لعمل إيلي بورجيلي "كفن الأسطورة" (1993)، حيث يسعى إلى تفكيك البنية الرمزية التي يحملها، وقراءة مزجه بين العدم والقلق وموت المعنى. رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود، أعاد الفنان نشر العمل على صفحته في فيسبوك بتاريخ 2 أيار/مايو عام 2025، ما أضفى عليه بُعداً تأملياً إضافياً يتصل بواقعنا المعاصر المليء بالفراغات الوجودية وأوجه عدم اليقين.
يرمز فعل الكفن في العمل إلى الإخفاء والحداد والتبجيل، لكنه في "كفن الأسطورة" يتجاوز ذلك ليطرح تساؤلاً حول أنظمة المعتقدات والهياكل التي فرضت المعنى عبر التاريخ. ينسج بورجيلي تركيبة تجريدية متعددة الطبقات تخاطب هشاشة الأسطورة وسُبل تفكيكها. ونادرًا ما تتجاوز الأعمال الفنية المعاصرة زمن إنتاجها، إلا أن "كفن الأسطورة" ينجح في تحقيق ذلك، ليس فقط بتجريد الشكل، بل بتأمل عدمي عميق في بنية الأسطورة نفسها.
إذا كانت الأساطير تُعد سرديات كبرى تنظم البنى، فإن العمل يفككها حتى العظم، تاركاً بقاياها معلقة في فضاء بصري خاوٍ. الشاش المستخدم لا يداوي، وعلامة X لا تؤكد، والحبر هو أثر باهت. يبقى العمل كرفض لتقديم حلول، محتضناً الفراغ الخام الناتج عن انهيار المعنى.
بهذا الفعل، يشارك الفنان في دفن الأسطورة، معلّقاً بين الحضور والغياب، الإيمان وزواله الحتمي. "كفن الأسطورة" يتجاوز مادته ليصبح بحثاً فلسفياً في تفكيك الأساطير، وانعدام استقرار المعنى، وفراغ تحلّل المعتقدات. فهو تركيبة مفاهيمية وعدمية تمثل تأملاً في موت الأسطورة واحتمال بعثها، ويركز على استقصاء فكري أعمق لإنكار المعنى، وعالم من اللايقين الظاهري المرتب وفوضاه الجوهرية.
الخلفية الحمراء في العمل تضفي شعوراً بالإلحاح؛ يرتبط الأحمر تاريخياً بالقوة والتضحية، لكنه هنا يعبر عن الدمار والانهيار. الشاش الطبي متعدد الوسائط هو رمز للشفاء، لكنه يُستخدم كتحنيط رمزي، محاولة عقيمة للحفاظ على ما لا يمكن الحفاظ عليه. الشاش ليس نقيًا بل تذكار هش لأسطورة تلفظ أنفاسها الأخيرة، مستخدماً طبقات لونية بين الأبيض والأصفر الباهت لتضميد جرح مفاهيمي، وكفن يلف أسطورة تموت ببطء. الشاش والأساطير وسيطان معلقان بين الحياة والموت، النسيان والتذكر، الفقدان والاستعادة المحتملة.
علامة X السوداء تحتل مركز العمل كأداة نفي ومحو، تشير إلى رفض أو شطب حقائق مقبولة سابقاً. لكنها لا تلغي فحسب، بل تترك أثر الفراغ الذي يجبر المشاهد على تأمل ما تبقى بعد انهيار المعنى. تعمل هذه العلامة كمرساة وتحذير: ليست مساحة للإيمان بل حقل لتفكيك البنية. إدخال اللونين الأبيض والأصفر يمثل إضاءة قسرية تكشف الغموض بدلاً من الوضوح، مؤكدين على أن الحقيقة إذا وُجدت فهي مشرذمة ومتعددة.
إيماءة بالحبر الصيني على جانب علامة X تظهر عرضية، تنم عن العفوية وقوة خارجة عن السيطرة، أو حتمية الإنتروبيا في سرديات مصنّعة بعناية. تعمل هذه البقعة كاختراق للفوضى ضمن تركيب متقن، وكأن التاريخ يرفض الاختزال في بنى منظمة. التنقيط بالحبر يضفي سيولة مادية تعزز الإحساس بالفوضى، والانفصال الفيزيائي، والشرخ في بنية النظام وزعزعة ثوابته، إشارة إلى قوى غير متوقعة تزعزع استقرار مفاهيم المعتقد والتاريخ. يغذي الفنان العشوائية لاختراق إطار مفاهيمي محكم.
العمل يذهب إلى ما وراء الفن المفاهيمي التقليدي، حيث تتداخل الأسطورة والمعتقد مع فراغ المعنى، ولا يكتفي بعرض المفاهيم بل يختبر هشاشتها، ويُلوّح بحقيقة غائبة لا تُقال. علامة X تجسد رمزية عدمية تؤكد أن الأسطورة والمعنى أُقصيا، ويعبر العمل عن الغياب والفجوة التي تتركها السرديات حين تنهار. مع حضور بصري تجريدي يدعم الطابع الفلسفي، يدعو العمل إلى تجربة شعورية غامرة في حالة من القلق الوجودي، مستحضراً نبرات نيتشه ودريدا اللذين تصادما مع تآكل السرديات الكبرى واستقرار المعنى المصطنع.
ينسجم العمل مع الفكر الوجودي والتفكيكي، ويعلن "موت الأسطورة" في لحظة نيتشوية، مشيراً إلى أن هذه الهياكل ليست أبدية، بل قابلة للاندثار بفعل الزمن أو إعادة النظر. يخاطب عصرًا تتفكك فيه الأيديولوجيات وتُهمل الأساطير، تاركًا شعوراً متزايداً بالغياب. في هذا الإطار، تصبح علامة X إعلاناً عن "موت المعتقد"، وتترك البشرية في فراغ بلا أساطير، بلا بدائل لسد الانهيار الرمزي.
العمل يفتح نافذة تأمل في هشاشة المعتقدات، ويدعو المشاهد لمواجهة الغياب الناتج عن انهيار المعاني الكبرى. في غياب السرد يبقى الفراغ الذي يفرض حضوره، ويطالبنا نحن أبناء ما بعد الأسطورة بالتحديق فيه، لا للبحث عن إجابة، بل للتدرّب على احتمال اللايقين.
إذا كان "كفن الأسطورة" يعكس انهيار السرديات الكبرى على الصعيد الجمعي والتاريخي، فإن هذا التفكيك يتجسد أيضاً في تجربة الذات، في البحث المضني عن هوية في مواجهة الفراغ والعدم. ومن هنا تبدأ رحلة أعمق في الوعي المتشظي، حيث تتحول الأسطورة إلى لعبة وجودية تُمارس داخل الذات الإنسانية.
من الناحية التاريخية، شهد العمل إنتاجه في أوائل التسعينيات وسط اضطرابات سياسية في لبنان، وإعادة تشكيل للأيديولوجيات، وتفكك ثقافي واسع. السرديات الكبرى قوبلت بشك متزايد، ما يجعل العمل نبوئياً يستبق عصر ما بعد الحقيقة، حيث يتلاشى اليقين ويبقى المتنازع عليه بلا ثبات. اليوم، بعد ثلاثة عقود، يظل العمل مشحوناً بالراهنية، في زمن تُعاد فيه كتابة التاريخ وتفكيك الأساطير واستجواب اليقين، مُصرّاً على سؤال:
ما الذي تبقى لنا بعد سقوط الأسطورة؟ وماذا يبقى عندما يُلغى المعنى ذاته؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق