نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كانّ 78 - ”براهين حبّ“: أمومة في ظلّ البيروقراطية - تكنو بلس, اليوم السبت 24 مايو 2025 06:30 مساءً
تعليق فظّ هنا، سؤال فضولي هناك، كفيلان بتعكير صفو حياتهما وإشعارهما بأن خيارهما لا يزال موضع مساءلة. وعلى الرغم من أن علاقتهما متينة، فهي ليست مثالية. الفيلم لا يسعى الى تجميل الواقع، يقدّمه كما هو: هشّ، متوتّر، مليء بالمحاولات المستمرة للحفاظ على التوازن في وجه نظرات الآخرين وأحكامهم.
تقع أحداث "براهين حبّ" (”اسبوع النقّاد") خلال الفترة الممتدة بين الحمل والولادة. التحضيرات التي تسبق قدومها إلى العالم، ليست سوى ذريعة تتّخذها المخرجة أليس دوار، في أول أعمالها الروائية الطويلة، للتعمّق في موضوع الأمومة، الذي بدا حاضراً بقوة هذا العام في مهرجان كانّ السينمائي (13 - 24 أيار).
سيلين وناديا ليستا وحدهما في هذه الرحلة. فإلى جانبهما، شبكة من الأشخاص والجهات التي تفرض حضورها لأسباب قانونية واجتماعية. في مشهد افتتاحي دالّ، تطلب المحامية من سيلين إحضار رسالة من والدتها — وهي عازفة بيانو شهيرة — تشهد فيها على طبيعة العلاقة التي تربطها بابنتها. تلك الرسالة تمثّل ورقة أساسية في ملف التبنّي، تهدف إلى إقناع القاضي بأهلية سيلين كأم بديلة. لا بد من الإشارة إلى أن سيلين ستتبنّى الطفلة التي تحملها ناديا، نتيجة علاقة جنسية أقامتها مع رجل دانماركي تبرّع بحيواناته المنوية، كأب بيولوجي لا أكثر، لن يكون له أي دور في حياة الطفلة، ما لم ترغب هي في التعرف اليه بعد بلوغها سن الرشد.
ناديا وسيلين تنتظران مولوداً.
هذه التفاصيل كلها، رغم تعقيداتها، تُعامَل في الفيلم كإضاءات واقعية ضرورية، لا كعقد درامية. إذ ينتمي هذا العمل قلباً وقالباً إلى تقليد سينمائي فرنسي يهوى المرور بأكثر من قضية في آن واحد، لكن من دون أن يفقد بوصلته. فالموضوع الأساسي يظلّ واضحاً ومحكماً: الأمومة، أو ربما الأبوة، بحسب الزاوية التي نختار أن نطلّ منها على هذه التجربة.
شخصية سيلين تحتل مركزاً محورياً في الفيلم. تعمل كـ“دي جاي“ في ملهى ليلي، وتلجأ، بدافع الضرورة، إلى وظيفة جانبية كمربية أطفال. في المقابل، تمارس ناديا مهنتها كطبيبة أسنان. وبين الواجبات اليومية والمستقبل المنتظر، تمرّ الشريكتان بلحظات شكّ وضعف تُربك قناعتهما، إذ رغم بلوغهما الثلاثينات، لا تزالان تجهلان إن كان في مقدورهما تولّي مسؤولية طفل بكلّ ما يتطلّبه الأمر من عطاء وتضحية. فالحبّ والرغبة شيء، وتربية طفل شيء آخر.
لكن الفيلم لا يبقى عند حدود تساؤلات الحياة اليومية، بل يأخذ منعطفاً جديداً مع دخول شخصية أم سيلين إلى السرد. فأمها، العازفة الشهيرة، التي كانت شبه غائبة عن حياة ابنتها، تعود فجأةً إلى المشهد، لتُستدعى الأسئلة الكبرى حول الأمومة: هل الأم هي مَن تنجب الطفل، أم من ترعاه وتحيطه بالحبّ؟
حضور الأم يُفكّك الكثير من تردّدات سيلين. فهي، في العمق، تحمل جرحاً قديماً نتيجة غياب الأم، وتظن أن عدم رغبتها في الإنجاب، وتفضيلها التبنّي، هما بطريقة ما شكل من أشكال معاقبة والدتها. هل يمكن أن نكون أهلاً صالحين إذا لم نُصفِّ قلوبنا أولاً تجاه أهلنا؟ هل نستطيع بناء عائلة متماسكة فوق أرضية من العلاقات المتصدّعة؟
في هذا السياق، يمنحنا الفيلم أحد أكثر مشاهده شاعريةً، لحظة تصفية قلوب تتم على خشبة المسرح، حيث يختلط الواقع بالخيال في مشهد لا بد أن يلامس وجدان كلّ من عاش ظروفاً عائلية متشظّية.
لا يمكن تجاهل الأداء المتقن للممثّلة والمخرجة القديرة نويمي لفوفسكي في دور الأم، إذ استطاعت أن تجسّد بحضورها المتناقض قدراً عميقاً من الالتباس الداخلي يترنح بين التسلّط والندم، بين الغياب والرغبة في التعويض، فكانت حجر الأساس في فهم علاقة الابنة بكلّ ما يدور من حولها.
أليس دوار، التي استلهمت الفيلم من تجربتها الشخصية، أرادت أن تخلق عملاً تلتقي فيه البنى القانونية الصارمة بالعاطفة والوجدان. زوجان غير تقليديين يجدان نفسيهما مطالبين بإنشاء ملف إداري مُحكَم، كي تحظى علاقتهما باعتراف رسمي. هذا الملف، كما تقول دوار، يُشبه إلى حدّ بعيد كتابة سيناريو: إعادة تشكيل صورة الذات أمام سلطة تراقب وتقرر.
من هذا المنطلق، تطرح المخرجة أسئلة أساسية: أي نوع من الأهل ستكونان؟ هل تملكان القدرة على الحبّ غير المشروط؟ وهل يُمكن المؤسسات أن تحكم على ذلك؟
تبرع إيللا رامب ومنية شكري في تجسيد هذه العلاقة المعقّدة، سواء كممثّلتين فرديتين أو كثنائي متناغم. تنبض شراكتهما على الشاشة بصدق نادر، يُظهر هشاشة الشخصيتين وقوتهما في آن واحد.
أخيراً، هذا ليس فيلماً "نضالياً" تقليدياً عن حقوق المثليين. لا يطالب بشيء ولا يخطب في وجه المجتمع. يعالج المسألة من الداخل، عبر مشاعر القلق والتساؤلات والحميمية. فالثنائي المثلي، كما يُبيّنه الفيلم، لا يختلف في شيء جوهري عن أي زوجين آخرين، مهما يكن الشكل الخارجي لعلاقتهما. وإن كانت أليس دوار تنأى عن الطرح المباشر أو الخطاب السياسي، فإنها تقدّم في المقابل عملاً جماهيرياً مشغولاً بحرفية عالية، قادراً على لمس أوسع شريحة من المشاهدين.
0 تعليق