نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كتب على "ورق التواليت"... رحل نغوجي واثيونغو وبقي أثر الحبر - تكنو بلس, اليوم الخميس 29 مايو 2025 06:27 مساءً
كان يمكن لنغوجي واثيونغو أن يصبح مجرد كاتب بارز ضمن جيلٍ من الكتّاب الأفارقة الذين برزوا في ستينيات القرن العشرين، لولا أنه قرر أن يسلك طريقاً مختلفاً وعراً، لكنه أكثر رسوخاً في الأرض التي جاء منها. لم يكتب ليرضي الجوائز، ولا ليكسب اعترافاً عالمياً بلغة الغالب، بل كتب ليفضح، ويحتج، ويؤسس لمشروع تحرير لم يكن سياسياً بقدر ما كان لغوياً وثقافياً.
وُلد نغوجي في كانون الثاني/ يناير 1938 في كينيا التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني، ونشأ في بيئة تتعدد فيها الزوجات ومتشظية بفعل الاحتلال، ليشهد في طفولته المبكرة كيف أن لغة أمه تُهان داخل أسوار المدارس، ويُعاقب من يتحدث بها. يومها لم يفهم تماماً ما يجري، لكنه أدرك مبكراً أن اللغة ليست مجرد أداة للتفاهم، بل مسألة كرامة ووجود.
باسم "جيمس نغوجي"، دخل عالم الأدب بالإنكليزية، وصدرت روايته الأولى "لا تبكِ أيها الطفل" عام 1964، ليكون أول كاتب من شرق إفريقيا تُنشر روايته ضمن سلسلة "هاينمان" الشهيرة، بإشراف صديقه وشريكه في الهمّ القاري تشينوا أتشيبي. لكن هذه البداية الناجحة لم تمنعه من التوقف والتأمل، ثم الانعطاف كلياً عن الإنكليزية، نحو لغة الجيكويو التي تربى عليها، وقرر أن يجعل منها أداة لمقاومة الثقافة الاستعمارية.
شكل عام 1977 لحظة فارقة في مسيرته: اعتُقل إثر مشاركته في تأليف مسرحية "سأتزوج عندما أريد"، وهي عمل كُتب بلغة الجيكويو، وأدى أدواره فلاحون، وانتقد بوضوح فساد الطبقة الحاكمة. قضى نغوجي عاماً في السجن، وهناك كتب روايته "شيطان على الصليب" على ورق التواليت، لتتحول التجربة من محنة شخصية إلى بيان أدبي في وجه القمع.
الكاتب نغوجي واثيونغو.
بعد الإفراج عنه، دخل في منفى طويل، تنقل خلاله بين بريطانيا والولايات المتحدة، محاضراً في جامعات كبرى، ومؤسساً مراكز تعنى بترجمة الأدب والكتابة بلغات الشعوب. لكنه ظل، رغم المنفى، مشدوداً إلى بلاده، يتابع ما يجري، ويكتب عنها بروح الساخر أحياناً، والغاضب كثيراً. في رواية "ساحر الغراب" (2006)، مثلاً، شيّد عالماً تخيلياً من الرموز السياسية التي تعري الواقع الإفريقي الحديث.
لم يكن مشروع نغوجي جمالياً بحتاً، بل مشروع تحرر، أدبيً ولغوي في آن. اعتبر أن الإمبريالية ليست مجرد قوة عسكرية، بل مشروع ثقافي يبدأ من فرض اللغة، وتهميش الذاكرة، وإعادة تشكيل الفرد ليحتقر تاريخه الخاص. كتب في أحد أشهر مؤلفاته النظرية "تفكيك عقل المستعمَر" أن أخطر أدوات السيطرة هي تلك التي تجعلك تحب سلاسلك، وتتباهى بإتقان لغة من ضربك بالأمس.
ورغم نبرته الحادة تجاه الإنكليزية، لم يكن متطرفاً في رفض الآخر، بل ناقد للعلاقة المختلة بين اللغات في إفريقيا، حيث تُقدَّم لغة المستعمِر على لغات الشعوب. وقد رأى أن التعليم الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالثقافة الأصلية، وأن الكاتب، أياً كانت وسيلته، لا بد من أن يكون شاهداً وشريكاً في معركة الوعي.

الكاتب نغوجي واثيونغو.
بعد عقود من الغياب، عاد نغوجي إلى كينيا عام 2004، في لحظة بدت أشبه بخاتمة رمزية، لكنه تعرض لهجوم عنيف في مقر إقامته، فغادر من جديد، من دون أن يتراجع عن قناعته بأن المستقبل يُبنى بلغات الأرض، لا بلسان الغزاة.
في صورة نادرة، ظهر نغوجي وقد وضع يديه على كتفي ولديه، موكوما وانجيكو، وكلاهما كاتب، وكلاهما اختار الكتابة بالإنكليزية. لم يغضب، بل ابتسم. لعلّه أدرك أن المعركة لا تدور حول اللغة فحسب، بل حول ماذا نقول بها، ومن نخاطب.
توفي نغوجي واثيونغو عن 87 عاماً، تاركاً خلفه تراثاً روائياً ونظرياً بالغ الأثر، من أبرز أعماله "بتلات الدم"، و"شيطان على الصليب"، و"ساحر الغراب"، و"ماتيغاري". بقي اسمه منارة لكل من آمن بأن الأدب لا يُكتب فقط للترف، بل ليُقاوم، وليبني أمةً على شفا اللغة والكرامة.
0 تعليق