نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
سيروان باران في "بودكاست مع نايلة": الفنّان الذي لا يلوّن الحياة بل يعرّيها - تكنو بلس, اليوم الجمعة 30 مايو 2025 10:53 صباحاً
في عالمٍ تتراكم فيه الحروب داخل الذاكرة، وتتشظى فيه الحقيقة تحت الركام، ينهض الفنان العراقي الكردي سيروان باران كصوت بصري يوثّق المأساة ويعيد تشكيل الألم. في "بودكاست مع نايلة"، اختارت رئيسة مجموعة "النهار" الإعلامية نايلة تويني أن تلقي الضوء على تجربة فنية استثنائية، ليس فيها للزينة مكان، بل للفجيعة والوجع والتاريخ المقموع.
سيروان باران، المولود في بغداد والمنحدر من أصول كردية تعود إلى أربيل، لا يعرّف نفسه كرسّام تشكيلي فحسب، بل كابن جيل الحرب، وناقل ذاكرة جماعية جرى قمعها وتشويهها وتكميمها لعقود. نشأته في ظلّ النزاعات والممنوعات جعلت من فنّه فعل مقاومة، لا مجرّد تعبير. ففي العراق، لم يكن الرسم محايداً، بل كان مُجبراً على تمجيد الانتصارات وطمس الحقيقة، حتى باتت ريشته مشروطة، ومخيّلته مكبّلة بالخوف.
تفتّح وعي سيروان الفنّي باكراً. لم يرسم البيوت والعصافير كالأطفال، بل الدبابات والطائرات والجنود. كانت ذاكرته مطبوعة بالحرب، منها رسم، ومن الألم بدأ مساره في مهرجانات الفن المعاصر بالعراق في التسعينيات.
كل مرحلة من حياته كانت صرخة فنية. لوحة "هروب الخيول" صرخة ضد القمع، مموّهة في تأويلٍ بصري. أما مغادرته إلى عمّان عام 2003، فكانت كسراً لأصفاد الخوف. هناك، استعاد صوته، ورسم للمرة الأولى بلا قيد. مشاريع مثل "تقسيم البطيخة" و"الهمس في الأذن" وثّقت تمزّق العراق وخوف ناسه، عبر رموز قابلة للتأويل تخترق القلب.
لكن بيروت كانت المنعطف. هناك، وجد سيروان التربة التي تحتمل ثقل ذاكرته. عمل مع غاليريات محترفة، وشارك في بينالي البندقية عام 2019 بمشروع "الوجبة الأخيرة"، المستوحى من "العشاء الأخير"، لكنه مغمّس بدماء الجنود الذين غُدر بهم وقت الطعام. جمع ثيابهم الملطخة بالدم من عائلاتهم، وأدخلها في لوحاته، ليعيد لهم حضوراً غُيّب بالقوة. تحوّلت اللوحة إلى نصب تذكاري حيّ، شاهد على خيانة وألم، لا على مأدبة روحية.
يؤكّد سيروان لنايلة أن الفن ليس ترفاً ولا تزييناً. هو أشبه برصاصة، كما يقول، إن أصابت الدماغ أحدثت إدماناً، وإن أصابت القلب أطلقت نزف الذاكرة. لذلك لا يحتفظ بلوحاته في بيته، بل يحيط نفسه بأعمال أصدقائه.
في بيروت، عاش انفجار المرفأ، الأزمات، والموت المتكرّر، وامتصّ من الشوارع كل قصصها، محوّلاً إياها إلى لوحات تنزف. يقول لنايلة إنه لا يفهم في السياسة، لكنه يغرق في القضايا الإنسانية حتى العظم، ويؤمن بأن الفن لا يُقاس بالسعر، بل بقدرته على تحريك الوجدان، وكشف المستور، واستثارة الصدمة الجماعية. يعتبر سيروان أن العالم تغيّر، والفن لا بد من أن يتغيّر أيضاً. لذلك يدعو إلى احتضان الذكاء الاصطناعي، شرط أن يُحرَّك بعقل حقيقي وشغف إنساني.
قهوته مرّة، كما الحياة. الشرّ هو الحالة الثابتة، والخير انتفاضة موقتة، والإنسان لا يحتمل الجنّة، فالتناقض شرط وجوده. وحده الفن، كما يرى، يخلّصه من صراعاته، لأنه كهرباء داخلية يجب تفريغها، وقد بدأ يرضى عن نفسه عندما بدأ يسامح.
سيروان باران شاهد وشهيد وصوتٌ في زمن الصمت. لوحاته تُعلَّق وتُقرأ. هو فنان الحرب التي لم تنتهِ، والوجع الذي لم يُدوَّن، والذاكرة التي تأبى أن تُنسى.
0 تعليق