نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مرايا الوجود وأحلام الوجوه - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 17 يونيو 2025 11:37 صباحاً
جوزاف ياغي الجميل
قصيدة الشاعر ألان جرجورة، ديوانه، " دوّيرات ببركة حبر" مرآة وجود الإنسان، منذ عمليّة الخلق الأولى. تقرأها. تطلق عليها صفة القصيدة الدائريّة، بل قصيدة الحياة والزمن. وتغرق في ثنائيّة الموت والحياة. أليست الحياة حركة دائريّة لا تتوقف، بين موت وحياة؟ أليست الأرض كرويّة، وكلّ ابتعاد هو لقاء؟ لقاء في الجانب الآخر للوجود اللاموجود؟
تبدأ القصيدة بحقيقة فلسفيّة مفادها أنّ الزمن، بالنسبة إلى الناس، دوائر. وهذه الدوائر مقفلة في عالم محدود مرتبط بعمر الإنسان. يولد الإنسان في مكان وزمان معيّنين، بل في سجن المادة التي لا مناص له من الخضوع لقوانينها الوجوديّة.
الدائرة الأولى هي الجسد. جسد يُضيِّق عليه مساحة الحرّيّة. وفي ذلك يقول الشاعر فوزي المعلوف، في قصيدته، عبد وحرّه:
إن جسمي عبد لعقلي وعقلي عبد قلبي والقلب عبد شعوره
والدائرة الثانية هي الرغبات التي تمنع الروح من الانطلاق. رغبات ربطها العالم النفسيّ سيغموند فرويد بثلاثيّة الهو والأنا والأنا الأعلى.وهي ثلاثيّة مقيّدة بثالوث زمانيّ أساسه الماضي، أي الطفولة، وما فيها من رغبات مكبوتة أو مقموعة. وليس للحاضر إلاّ الخضوع لتفاعلات هذا الماضي المختزن في ذاكرة اللاوعي والليبيدو النفسيّ. أمّا المستقبل فهو بدوره خاضع لدائرة الماضي الطفوليّ الفرديّ أو الجمعيّ.
أمّا الدائرة الثالثة فهي العائلة والمجتمع والسلطة. وهي يدوائرها ترفع سوراً بين الإنسان وحرّيته.
دوائر متعدّدة الأشكال والأحجام والألوان. ولكنّها دوائر رماديّة، أو سوداء، تقف عقبة أمام الفرد ، في صراعه والحياة.
والحياة، في قدريّتها، دائرة، بل دولاب ، بل حجر رحى يسحق الناس، في طاحونة الحياة. دولاب كبير يسحق الذين يعجزون عن متابعة السير، فيتعثّرون، ويقعون، تحت رحمته، فيسحقهم، كأنّهم حشرات، أو حبّات قمح، في طاحونة قدر لا يشفق أو يلين .
في قصيدة الشاعر جرجورة قدريّة أشبه بالمأساة اليونانيّة: " كلّ اللي خلقو بمطرحن ماتو". تصبح الولادة بالنسبة إلى الشاعر موتاً. وكأنّه أبو العلاء يقول في قصيدته:
لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنوا لِلْخَرابِ ... فَكُلُّكُمُ يصيرُ إلى ذَهابِ
لِمَنْ نَبني وَنَحْنُ إِلى تُرابٍ ... نَصيرُ كمَا خُلِقْنا مِنْ تُرابٍ
ولكنّ المفارقة أن الشاعر جرجورة يضع حدّاً لهذه السوداويّة، إذ يكمل الدائرة ، ويحوّل الموت إلى ولادة. يصبح الكوجيتو الجرجوريّ: أنت تولد إذاً أنت تموت. ولكنّ في موتك ولادة. وهذه الدائريّة الحياتيّة مرتكزة إلى بعد إيمانيّ مسيحيّ. يستعيد، في فلسفته هذه، مثل حبّة القمح التي يجب أن تموت، لكي تحيا، ولا تبقى مفردة. وفي موتها حيوات كثيرة وغلال أكثر.
وقد يكون لهذه النظريّة جذور في أسطورة أدونيس وعشتروت، أو في الديانات الوضعيّة الشرقيّة التي تؤمن بالتناسخ.
حتميّة الموت، في شعر جرجورة، تتساوى وحتميّة الولادة؛ لأنّ الزمن دائريّ، يسير في نسق دائريّ لا أفقيّ، هو خطّ الاتّصال بالدائرة العلْوية التي تشبه أنشوطة المشنقة أحيانا، وهي تضغط على عنق الإنسان، وتدفعه إلى الاستسلام، ورفض المقاومة.يلقي الشاعر على نفسه سؤالاٍ فلسفيّاً أزليّاً: مَن أنا حين أعود إليّ؟واستطراداً يصبح السؤال: إن كان الموت يساوي الحياة، فلماذا أحيا؟ ولماذا أموت؟ أيكون في ذلك عبث كونيّ أم حكمة ما ورائيّة، لا يفقه الإنسان معناها؟ وكأنّ الشاعر يستعيد فلسفة..... التي تقول: إن الناس نيام، فإذا ماتوا استيقظوا.
ولعلّ في هذه الفكرة عودة إلى الفلسفة الأفلاطونيّة عن عالمي المثل والظلال. والموت والحياة مرآتان لهذه النظريّة الفلسفيّة: عندما يموت الإنسان يخرج إلى النور، فيكتشف الحياة الحقيقيّة. الحياة الثانية حيث لا ألم ولا دموع، بل فرح مطلق وسعادة أبديّة.
الحباة ليست بداية بالنسبة إلى الشاعر. والموت ليس نهاية. الحياة والموت مقطوعتان موسيقيّتان في سمفونيّة الوجود. والتكرار هو النغمة الوحيدة التي لا تسأم ذاتها. وفي ذلك يقول ابن عربي:
الموت حياة. والحياة موت...وما الفناء إلا عين البقاء"
الشاعر في صراع وذاته التي تحوّلن إلى مرايا متشظّية، كسرها التكرار، حين اختلّت ذاكرة الوجود. وغي ذلك يقول الفيلسوف كيركيغارد:" أن تكون نفسك هو أعظم تحدٍّ...لأنّه يعني أن تواجه ذاتك، كلّ يوم، من جديد."
ولعلّ مصطلحي الحياة والموت، في لا وعي الشاعر، يصبحان رمزاً للكتابة. حين يموت الحبر يولد الإبداع. الحبر ليس حبراً، بل ماء أسود يخربش على جسد الزمن. وفي خربشاته تعبير عن الذات وولادة تُخرج الكلمة من بين رماد النسيان.
وهكذا، يخرج النص الشعريّ في سيميائيّته من آفاقه الفلسفيّة إلى دوائر التأويل. ومن التأويلات الجرجورية بحثه عن لحظة تمرّد على الزمن. لم يعد يريده صخرة سيزيفيّة" دوّيرات" يكرّر حملها، إلى القمّة، بلا تذمّر. شعاره في ذلك يتجاوز ما قال الكاتب الفرنسي ألبير كامو: " الإنسان لا يستطيع أن يهرب من دوّامة الزمن، لكنّه يستطيع أن يصنع من الوعي بها معنى التمرّد". وقد حاول الشاعر ألان جرجورة، في دوائره هذه أن يتمرّد، وقد استطاع العثور على وجهه الحقيقيّ في مرآة لا اللاوعي، عبر دوائر الأمل والحلم والشعر.
ألان جرجورة، طوبى ل"دوّيرات" حبرك، حُبّك، لأنّها دعت القارئ إلى إعادة قراءة الزمن ككتابة، والكتابة كزمن، ومنحت القصيدة أفقاً فلسفيّاً تجاوز سطح العاميّة إلى عمق الوجود، فاستطاعت كلّ "دوّيرة" أن تشكّل أثراً على سطح بركة الحياة، وفي الأعماق، كما أن كلّ لحظة وجوديّة تترك أثراً في ذاكرة الزمن/ النص/ المرآة.
0 تعليق