ثلاث صرخات سينمائية في وجه آلة القمع الإيراني - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ثلاث صرخات سينمائية في وجه آلة القمع الإيراني - تكنو بلس, اليوم الجمعة 20 يونيو 2025 08:34 صباحاً

تحت السطوة الحديدية لنظام الملالي في إيران، حيث يتحوّل الدين إلى أداة قمع والكلمة إلى تهمة والصورة إلى جريمة، كانت السينما في السنوات الأخيرة آخر معاقل الحرية. ليست أفلام رفيع بيتس ومرجان ساترابي وجعفر بناهي مجرد أعمال فنية عُرضت في مهرجانات دولية ورُشِّحت للجوائز، بل وثائق حيّة، تقاوم بها الذات الإيرانية اختناقها، وتدوّن بها ذاكرتها الجمعية تحت حكم ديني شمولي صادر المجتمع والفرد، بل وصادر حتى الحقّ في الحلم.

"الصيّاد" لرفيع بيتس

يستعيد الفيلم صورة فوتوغرافية تعود الى عام 1980، التُقطت بعدسة منوشهر دغاتي، تُظهر حراس الثورة الإسلامية على دراجاتهم النارية، يحتفلون بالذكرى الأولى للثورة. يصف المخرج الصورة بأنها "عدائية"، مشيراً إلى أنها كانت جزءاً من المناخ البصري الذي نشأ فيه جيله. منذ اللحظات الأولى، يتعامل الفيلم مع السلطة ببرودة تزرع القلق. علي (يلعب دوره بيتس)، بطل الفيلم، هو من افرازات واقع اجتماعي خانق، حيث الحياة اليومية صيد متبادل.

علي يمثّل فرداً منزوع الانتماء، قنبلة موقوتة في بيئة حضرية قاسية، أُطلق من السجن ليجد نفسه في مجتمع لا مكان فيه للهدوء. هذا فيلم عن فرد يتصارع مع سلطة ترى في كلّ سؤال جريمة. الفيلم سينتقل في ختامه إلى الغابة، شمال إيران. الطبيعة هنا ليست ملاذاً، بل مسرح للموت والعزلة. السيارة الخضراء التي يقودها علي ترمز إلى الحياة وسط مشهد شتوي ميت. اللون الأخضر، المختار قبل انطلاق "الحركة الخضراء"، يصبح علامة على التنبؤ بالهبّة الشعبية.

 

”برسيبوليس” لمرجان ساترابي وفنسان بارونو.

”برسيبوليس” لمرجان ساترابي وفنسان بارونو.

 

علي، في بحثه عن أسرته، يصطدم بجدار الإدارات، رمزاً لعالم كافكاوي يسحق الإنسان. رغم تمرده، لا يُقدَّم كبطل. الأسئلة الأخلاقية والسياسية تشكّل قلب الفيلم الذي يشبه متاهة تتقاطع فيها مصائر ثلاثة: علي والشرطي والجندي. كلهم ضائعون. كلهم ضحايا.

"برسيبوليس" لمرجان ساترابي وفنسان بارونو

فتاة صغيرة تُقذَف في قلب الجحيم الإيرانية الجديدة – جحيمٌ تأسّست عام 1979 عندما أطاح نظام الملالي حكم الشاه، ليقيم على أنقاضه جمهورية إسلامية سرعان ما تحوّلت إلى دولة فاشية، تستخدم المقدّس كسوط وتفرض الحجاب كقيد أولي على الجسد. فيلم التحريك هذا شهادة نادرة، تأتي من داخل بلد سُدَّت فيه النوافذ وأُغلِقت فيه الأفواه، وشُرِّع الباب واسعاً أمام دولة دينية تملك خطاباً واحداً وحقيقة واحدة.

في هذا السياق، تصبح الفتاة مرجان، ذات الأعوام الثمانية، صوتاً لاذعاً يتتبّع بدقّة كيف استُبدِلت وعود الثورة بحصار داخلي، وكيف تواطأ الخطاب الإسلامي السياسي مع البروباغندا، ليحوّل الحياة اليومية إلى سجن.

ومع صعود الملالي إلى سدّة الحكم، بدأت ملامح الجحيم تتّضح: الحجاب فُرض على النساء، الكتب خضعت للمصادرة، الأذواق والفنون والأفكار فُحِصت تحت المجهر، وأصبح الشعب بأسره مادة خاضعة لـ"إعادة التهذيب". مرجان رفضت الامتثال. ومع بداية الحرب العراقية الإيرانية، حيث فُرض على المجتمع نمط قاس من الزهد الوطني والقهر الجمعي، قررت عائلتها إرسالها إلى منفاها النمسوي.

في الرابعة عشرة، غادرت مرجان وطنها، تاركةً خلفها الجدران العالية والحجاب الإجباري. رفضت مرجان ساترابي التي أنجزت فيلمها بالتعاون مع فنسان بارونو، أن تحوّل حياتها إلى مادة إكزوتيكية، أو أن تُستهلَك سرديتها من قبل سوق لا يملك حساسية الفهم. كان هدفها كسر الصورة النمطية عن إيران والإيرانيين، وتقديم نسخة مغايرة عمّا يصدّره النظام القائم. 

نبذت الفيلم التقليدي واختارت التحريك، ذلك انها لم ترغب في تجسيد شخصيات حقيقية بلغة سينمائية واقعية، لأنها كانت تدرك أن هذا سيجعل من حكايتها "قصّة شرق أوسطية أخرى". "بيرسيبوليس" لا يشبه أي فيلم. إنه مزج خاص بين الألم الشخصي والسياسي، بين النقد والسخرية، بين الحكاية والحلم.

"تاكسي" لجعفر بناهي

مع "تاكسي" الذي نال "الدب الذهبّ" في مهرجان برلين 2015، وجد جعفر بناهي في القيادة حلاً إخراجياً. في بلدٍ مُرِّغ فيه الفنّ تحت أقدام السلطة الدينية، أصبحت سيارة الأجرة استوديو تصوير، والكاميرا الصغيرة المثبّتة قرب المرآة اطلالة على أكاذيب النظام ونبضاً حقيقياً لناس لا يُسمَح لهم بالكلام في العلن. بناهي، الذي كان مُنع عن السفر والتصوير بدءاً من العام 2010 بحكم قضائي، يؤكّد مع هذا الفيلم أن مَن يمتلك الفنّ لا يُسكَت بمرسوم، وأن الحرية إن لم تعلن نفسها من على شاشة رسمية، تتسلّل من ثقب صغير، من كاميرا رقمية، من تاكسي يسير في شوارع المدينة.

يخترع بناهي شكلاً سينمائياً يليق بزمن الرقابة. يتخفّى داخل سيارة، لا يضع جنريك، لا يعلن أسماء الممثّلين (كلهم هواة)، يوزّع الكاميرا بين زوايا المركبة وعدسات الهواتف، حتى لا يُمكّن الرقابة من الإمساك بنقطة ثابتة. فعندما يحظر نظام الملالي الكلمة، تصبح الصورة فعل تمرد. وعندما تُغلق وزارة الإرشاد الأبواب، تُفتح نوافذ السيارة على المدينة، على أصواتها ومخاوفها ونكاتها المرة.

ما يُسمَّى بـ"الواقعية المنفّرة" هو التهمة التي تلاحق بها السلطات أمثال بناهي. فالنظام لا يريد "واقعية"، بل "طُهراً مصطنعاً". لا يريد السينما أن تعكس الواقع، إنما اعادة إنتاج أكاذيبه. السينما النظيفة، بحسب منطقهم، هي تلك التي تلمّع صورة المجتمع، تخفي فقره، تسكت نساءه، وتصوّر النظام كظلّ الله على الأرض. لكن بناهي يفكّك هذه اللعبة، يسخر منها، ويمرّر من خلال أسئلة ابنة أخته، ومن خلال القصص اليومية للركّاب، نقداً لاذعاً لبنى السلطة ولخطابها الأخلاقي الزائف.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق