نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في ظلال الأزمة: لبنان ومأزق الأمن الغذائي - تكنو بلس, اليوم الجمعة 20 يونيو 2025 10:13 صباحاً
فرانسيسكا موسى
في لبنان، لا يبدأ الموت بالحرب ولا ينتهي بالجوع، بل قد يكون كامناً في ما نظنه حياة: في حبة بندورة طازجة، في تفاحة لامعة، في لقمة نتناولها بثقة. المأكولات التي تُعرض بوفرة في الأسواق تخفي خلف ألوانها الزاهية وعودًا كاذبة بالأمان. في بلد تنهك فيه الدولة وتتداعى مؤسساته، يتحول الغذاء إلى معادلة معقدة يتداخل فيها السمّ مع الحاجة، والمبيد مع الإهمال، والفساد مع الجوع.
الأمن الغذائي في لبنان لم يعد مسألة ندرة أو إنتاج فحسب، بل بات أزمة وجودية تهدد صحة الإنسان بشكل مباشر. بين غلاء أسعار المواد الزراعية وانفلات استخدام المبيدات والأسمدة، تتعرض سلسلة الغذاء لانهيار بطيء وصامت. في الحقول، يقف المزارع اللبناني وحيدًا أمام معادلة قاسية: إما استخدام ما يتوافر من مبيدات لحماية محصوله، وإما خسارة كل شيء. تكشف التحقيقات الميدانية أن جزءًا كبيرًا من المواد الزراعية، لا سيما منها المبيدات والأسمدة، يدخل البلاد بطرق غير شرعية أو من دون رقابة كافية، ما يشكل تهديدًا مباشرًا على سلامة الغذاء. إلى جانب التهريب عبر الحدود البرية، خصوصًا مع سوريا، حيث تنقل شحنات عبر معابر غير رسمية أو بتواطؤ جهات محلية. يُسجَّل أيضًا استيراد "نظامي" لمواد مغشوشة تُصنف زائفًا مكملات زراعية أو مواد معالجة بيئية لتفادي التدقيق. وغالبًا ما تمر هذه الشحنات عبر مرفأ بيروت أو مطار رفيق الحريري من دون فحص مخبري فعال بسبب ضعف البنية التحتية وغياب المختبرات المتخصصة.
الأسوأ أن بعض المواد يعاد تعبئته محليًا داخل عبوات تحمل علامات تجارية معروفة، ويباع في مستودعات زراعية من دون التزام معايير الجودة أو فواتير رسمية. هذا الانفلات يُغري المزارعين، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية، من أجل شراء مواد أرخص ولو كانت خطرة، مما يؤدي إلى استخدام عشوائي لمبيدات محظورة دوليًا وتسرب السموم إلى الأسواق من دون علم المستهلك.
في ظل هذا الواقع، تبدو الدولة غائبة عن مشهد الرقابة الزراعية، إذ تعاني وزارة الزراعة من نقص حاد في الموارد، سواء المختبرات القادرة على تحليل بقايا المبيدات أو الكوادر الفنية للتفتيش والمتابعة في الحقول والأسواق. وغياب سياسة وطنية متكاملة للرقابة على استيراد المواد الزراعية وتوزيعها واستخدامها يترك السوق مفتوحًة للعشوائية، ويُجبر المزارع على اتخاذ قرارات تؤثر على صحة ملايين المستهلكين. نتائج هذا الفشل أصبحت ملموسة، إذ تُسجل ارتفاعات مقلقة في نسب الإصابة بأمراض مزمنة في المناطق الزراعية، ولا سيما منها السرطان وأمراض الكبد والجهاز التنفسي، نتيجة التعرض الطويل لمواد سامة في الغذاء والمياه والتربة. وتشير التقارير الطبية، رغم غياب إعلان رسمي، إلى علاقة سببية واضحة بين سوء استخدام المبيدات وتفاقم هذه الأمراض، فيما تبقى الكارثة مستترة بسبب غياب قاعدة بيانات وطنية موثوقة، ويستمر التسمم البطيء من دون إنذار.
في ظل هذه المعطيات، يفقد مفهوم "الأمن الغذائي" معناه الحقيقي. فالأمن الغذائي لا يعني توافر الطعام فحسب، بل سلامته واستدامته. لا يمكن اعتبار بلد آمنًا غذائيًا إذا كان طعامه يهدد صحة شعبه، وإذا كانت الزراعة تقوم على العشوائية والسموم. المطلوب وقف استيراد المبيدات والأسمدة من دون رقابة، وتفعيل المختبرات في المرافئ والمناطق الزراعية، وإعداد لائحة وطنية بالمواد المسموحة والممنوعة بناءً على توصيات دولية لا مصالح تجارية. كما يجب إطلاق برامج تدريب للمزارعين على الاستخدام الآمن والفعال للمواد الزراعية، ودعم الزراعة المستدامة وتشجيع الإنتاج العضوي عبر دعم حقيقي بعيدًا من الوسطاء والزبائنية السياسية.
اللبنانيون نا عادوا يتحملون الانتظار خلف الخطط النظرية أو الشعارات الجوفاء. هم يستحقون طعامًا نظيفًا يحفظ حياتهم، وزراعةً تحمي صحتهم، ودولة تحمي لقمة خبزهم التي تمثل كرامتهم وسيادتهم. عندما يُترك الغذاء بلا حماية، يُترك الوطن بلا حصانة حقيقية. لذلك، يجب أن يكون الأمن الغذائي خط الدفاع الأول الذي لا يُمكن التهاون فيه، لأن
الصحة هي الثروة الحقيقية، والطعام السليم هو مفتاحها.
0 تعليق