نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ثلاث صرخات سينمائية في وجه آلة القمع الإيراني - تكنو بلس, اليوم الجمعة 20 يونيو 2025 10:58 صباحاً
تحت السطوة الحديدية لنظام الملالي في إيران، حيث يتحوّل الدين إلى أداة قمع والكلمة إلى تهمة والصورة إلى جريمة، كانت السينما في السنوات الأخيرة آخر معاقل الحرية. ليست أفلام رفيع بيتس ومرجان ساترابي وجعفر بناهي مجرد أعمال فنية عُرضت في مهرجانات دولية ورُشِّحت للجوائز، إنما وثائق حيّة، تقاوم بها الذات الإيرانية اختناقها، وتدوّن بها ذاكرتها الجمعية تحت حكم ديني شمولي صادر المجتمع والفرد، بل وصادر حتى الحقّ في الحلم.
في ثلاث تجارب سينمائية مختلفة شكلاً ومتقاربة جوهراً، تتجلّى معاناة شعب عالق في برزخ بين التاريخ والدين والدولة. يتخذ بيتس من صورة فوتوغرافية شاهداً على تحوّل الثورة إلى مسخ، وتسترجع ساترابي طفولتها في ظلّ نظام حوّل الفتيات إلى أهداف أخلاقية، فيما يقود بناهي سيارته في طهران ليحوّل التاكسي إلى استوديو متحرك. الصوت واحد: إيران التي تخنق أبناءها، وأبناء إيران الذين لا يتوقّفون عن الصراخ. محاولات عنيدة لكسر الجدار العالي الذي رفعه النظام حول الإنسان.
"برسيبوليس" لمرجان ساترابي وفنسان بارونو (2007)
فتاة صغيرة تُقذَف في قلب الجحيم الإيرانية الجديدة – جحيمٌ تأسّست عام 1979 عندما أطاح نظام الملالي حكم الشاه، ليقيم على أنقاضه جمهورية إسلامية سرعان ما تحوّلت إلى دولة فاشية، تستخدم المقدّس كسوط وتفرض الحجاب كقيد أولي على الجسد. فيلم التحريك هذا شهادة نادرة، تأتي من داخل بلد سُدَّت فيه النوافذ وأُغلِقت فيه الأفواه، وشُرِّع الباب واسعاً أمام دولة دينية تملك خطاباً واحداً وحقيقة واحدة.
في هذا السياق، تصبح الفتاة مرجان، ذات الأعوام الثمانية، صوتاً لاذعاً يتتبّع بدقّة كيف استُبدِلت وعود الثورة بحصار داخلي، وكيف تواطأ الخطاب الإسلامي السياسي مع البروباغندا، ليحوّل الحياة اليومية إلى سجن. الطفلة مرجان التي حلمت بأن تكون "نبيّة" تنقذ البشرية من آلامها، كبرت على أنقاض حروب وقمع وإعدامات، وسط بلد مزّقته الحرب مع العراق كما مزّقته الكراهية الداخلية ضد كلّ مَن يختلف.
”برسيبوليس” لمرجان ساترابي وفنسان بارونو.
ومع صعود الملالي إلى سدّة الحكم، بدأت ملامح الجحيم تتّضح: الحجاب فُرض على النساء، الكتب خضعت للمصادرة، الأذواق والفنون والأفكار فُحِصت تحت المجهر، وأصبح الشعب بأسره مادة خاضعة لـ"إعادة التهذيب". مرجان رفضت الامتثال. ومع بداية الحرب العراقية الإيرانية، حيث فُرض على المجتمع نمط قاس من الزهد الوطني والقهر الجمعي، قررت عائلتها إرسالها إلى منفاها النمسوي.
في الرابعة عشرة، غادرت مرجان وطنها، تاركةً خلفها الجدران العالية والحجاب الإجباري، لتقع في مواجهة عالم لا يشبهها. في فيينا، كانت الغربة مرة، لكنها شكّلت معركتها الثانية: منفى جسدي ونفسي، حيث تواجه العنصرية الثقافية وازدراء الغرب لكلّ ما هو إسلامي.
رفضت مرجان ساترابي التي أنجزت فيلمها بالتعاون مع فنسان بارونو، أن تحوّل حياتها إلى مادة إكزوتيكية، أو أن تُستهلَك سرديتها من قبل سوق لا يملك حساسية الفهم. كان هدفها كسر الصورة النمطية عن إيران والإيرانيين، وتقديم نسخة مغايرة عمّا يُصدّره النظام القائم: نسخة عن إنسانٍ يُقمع لا باسم الطغيان العسكري، بل باسم الله.
نبذت الفيلم التقليدي واختارت التحريك، ذلك انها لم ترغب في تجسيد شخصيات حقيقية بلغة سينمائية واقعية، لأنها كانت تدرك أن هذا سيجعل من حكايتها "قصّة شرق أوسطية أخرى". فضّلت استخدام الرسوم البيضاء والسوداء، التي، كما قالت، تسمح لكلّ مشاهد بأن يرى نفسه في الحكاية، بغض النظر عن خلفيته الثقافية. إلا أن "بيرسيبوليس" لا يشبه أي فيلم. إنه مزج خاص بين الألم الشخصي والسياسي، بين النقد والسخرية، بين الحكاية والحلم.
الفيلم لا يدّعي الحياد، انه مشحون بسخط واضح ضد ما فعله نظام الملالي بإيران وشعبها. يظهر ذلك في كلّ تفصيلة: من فرض اللباس إلى طمس الهوية الفردية. الجمهورية الإسلامية كما تراها ساترابي ليست دولة، انها "آلة إيديولوجية" تطحن الإنسان وتحوّله إلى شيء يسير في طابور طويل نحو المجهول.
بعد النجاح الدولي للفيلم، وجدت ساترابي نفسها في مواجهة حرب جديدة، إعلامية هذه المرة. وُصف فيلمها بأنه معادٍ للإسلام، واتُّهمت بتشويه صورة إيران. وبعد عرضه في إيران بنسخة مبتورة، تحوّلت إلى اسم "مغضوب عليه". لكنها، بأسلوبها الذكي والساخر، رفضت الرد بمزيد من الكراهية. قالت ببساطة: "إني أؤمن بحرية التعبير، ولا أتوقّع من الجميع أن يوافقني. دوري ليس تقديم الحقيقة المطلقة، إنما فقط محاولة الاقتراب منها. هذه وظيفة الفنّ، أما الحقيقة المجردة فهذا شأن نشرات الأخبار".
في كلّ مشهد من "بيرسيبوليس"، تلوح أشباح دولة الملالي. حتى في صمت الشخصيات، حتى في انتقال مرجان من مدينة إلى أخرى، يظلّ الثقل الإيراني حاضراً. هذه ليست قصّة مراهقة هاربة، انها قصّة جيل ضائع، جيل نُهِبَت منه الثورة، وسُرِقت أحلامه باسم الفضيلة. جيل، كما تصفه ساترابي، لا يملك شيئاً يخسره، ولذلك هو مستعد لكلّ شيء.
"الصيّاد" لرفيع بيتس (2010)
يستعيد الفيلم صورة فوتوغرافية تعود الى عام 1980، التُقطت بعدسة منوشهر دغاتي، تُظهر حراس الثورة الإسلامية على دراجاتهم النارية، يحتفلون بالذكرى الأولى للثورة. يصف المخرج الصورة بأنها "عدائية"، مشيراً إلى أنها كانت جزءاً من المناخ البصري الذي نشأ فيه جيله. منذ اللحظات الأولى، يتعامل الفيلم مع السلطة ببرودة تزرع القلق. علي (يلعب دوره بيتس)، بطل الفيلم، هو من افرازات واقع اجتماعي خانق، حيث الحياة اليومية صيد متبادل.
يترك بيتس الأسئلة مفتوحة، فهو يعامل أفلامه كما يعامل ضيفاً في عشاء إيراني: "نقدّم له عدّة أطباق، لكنه حرّ في اختيار ما يأكل". علي يمثّل فرداً منزوع الانتماء، قنبلة موقوتة في بيئة حضرية قاسية، أُطلق من السجن ليجد نفسه في مجتمع لا مكان فيه للهدوء أو المعنى. هذا فيلم عن فرد يتصارع مع سلطة ترى في كلّ سؤال جريمة.
تصوير طهران في الفيلم لافت، يضاهي أجمل صور المدن سينمائياً. المدينة تشبه لوس أنجليس – أو كما يسمّيها بعض الإيرانيين: "طهرانجليس" – مجتمع يعيش في السيارات، وسط اختناق حداثي يولّد عزلة قاسية.
الفيلم سينتقل في ختامه إلى الغابة، شمال إيران. الطبيعة هنا ليست ملاذاً، بل مسرح للموت والعزلة. السيارة الخضراء التي يقودها علي ترمز إلى الحياة وسط مشهد شتوي ميت. اللون الأخضر، المختار قبل انطلاق "الحركة الخضراء"، يصبح علامة على التنبؤ بالهبّة الشعبية. ورغم أن التصوير سبق الانتخابات الإيرانية عام 2009، فإن التوتّر الذي في الفيلم يبدو انعكاساً مباشراً لما جرى بعدها. بيتس لا يضع السياسة في الهامش، إنما في القلب. علي يستمع إلى خطاب خامنئي بينما يقود سيارته، في مشهد يمكن قراءته كرد ساخر على "التغيير" الذي بشّر به أوباما.
هذا فيلم عن رجل يبحث عن زوجته وابنته، عن شعب ضائع بين بيروقراطية قاتلة وسلطة شمولية وجيل بلا مستقبل. 70% من الإيرانيين تحت الثلاثين، جيل لا يملك ترف الانتظار. علي، في بحثه عن أسرته، يصطدم بجدار الإدارات، رمزاً لعالم كافكاوي يسحق الإنسان. رغم تمرده، لا يُقدَّم كبطل. الأسئلة الأخلاقية والسياسية تشكّل قلب الفيلم الذي يشبه متاهة تتقاطع فيها مصائر ثلاثة: علي والشرطي والجندي. كلهم ضائعون. كلهم ضحايا.
"تاكسي" لجعفر بناهي (2015)
مع "تاكسي" الذي نال "الدب الذهبّ" في مهرجان برلين 2015، وجد جعفر بناهي في القيادة حلاً إخراجياً. في بلدٍ مُرِّغ فيه الفنّ تحت أقدام السلطة الدينية، أصبحت سيارة الأجرة استوديو تصوير، والكاميرا الصغيرة المثبّتة قرب المرآة اطلالة على أكاذيب النظام ونبضاً حقيقياً لناس لا يُسمَح لهم بالكلام في العلن. بناهي، الذي كان مُنع عن السفر والتصوير بدءاً من العام 2010 بحكم قضائي، يؤكّد مع هذا الفيلم أن مَن يمتلك الفنّ لا يُسكَت بمرسوم، وأن الحرية إن لم تعلن نفسها من على شاشة رسمية، تتسلّل من ثقب صغير، من كاميرا رقمية، من تاكسي يسير في شوارع المدينة.
يخترع بناهي شكلاً سينمائياً يليق بزمن الرقابة. يتخفّى داخل سيارة، لا يضع جنريك، لا يعلن أسماء الممثّلين (كلهم هواة)، يوزّع الكاميرا بين زوايا المركبة وعدسات الهواتف، حتى لا يُمكّن الرقابة من الإمساك بنقطة ثابتة. فعندما يحظر نظام الملالي الكلمة، تصبح الصورة فعل تمرد. وعندما تُغلق وزارة الإرشاد الأبواب، تُفتح نوافذ السيارة على المدينة، على أصواتها ومخاوفها ونكاتها المرة.
الصوت هنا ليس صوت بناهي فحسب، انه صوت طهران المقموع، المتعدّد، المتناقض. صوت الطالبة الصغيرة التي تتعلّم في المدرسة كيف تصنع فيلماً "نظيفاً" وفق معايير الرقابة الدينية، في مشهد ساخر وموجع يكشف إلى أي مدى وصل التلاعب بالبنية الذهنية للأجيال الجديدة. الطفلة تسرد الشروط المطلوبة للفيلم: ألا تنتقد النظام، ألا يكون للشرير اسم إسلامي، ألا يُظهر المجتمع كما هو فعلاً بل كما يريد الحاكم أن يراه.
ما يُسمَّى بـ"الواقعية المنفّرة" هو التهمة التي تلاحق بها السلطات أمثال بناهي. فالنظام لا يريد "واقعية"، بل "طُهراً مصطنعاً". لا يريد السينما أن تعكس الواقع، إنما اعادة إنتاج أكاذيبه. السينما النظيفة، بحسب منطقهم، هي تلك التي تلمّع صورة المجتمع، تخفي فقره، تسكت نساءه، وتصوّر النظام كظلّ الله على الأرض. لكن بناهي يفكّك هذه اللعبة، يسخر منها، ويمرّر من خلال أسئلة ابنة أخته، ومن خلال القصص اليومية للركّاب، نقداً لاذعاً لبنى السلطة ولخطابها الأخلاقي الزائف.

”تاكسي” لجعفر بناهي.
في إحدى اللقطات، يدخل إلى السيارة راكب يبيع أفلاماً مقرصنة، فيبدأ حديثاً مع بناهي حول السينما. المفارقة؟ هو مَن يزوده الأفلام المحظورة. المضحك؟ الدولة التي تمنع وودي آلن ونوري بيلغي جيلان هي نفسها التي تعجز عن منع انتشار أفلامهما عبر أقراص القراصنة. هذا التهريب البسيط يصبح في ذاته فعل مقاومة: تهريب خيال في نظام يريد شعباً بلا أحلام.
الفيلم ليس فقط تحايلاً على المنع، انه أيضاً إعادة تعريف لفعل الإخراج تحت القمع والحصار. نحن أمام سينما داخلية، متقشّفة الشكل، لكن ثرية بالمعنى. بناهي لا يرفع شعارات ولا يلوّح بقبضة، لكنه يصيب النظام في الصميم: يحوّل سجن الرقابة إلى ملعب للأفكار الخلاقة، ويحوّل قرار الإعدام المهني إلى فرصة للابتكار. عمله لا يشبه أعمال المعارضة الغربية، اذ انه يولد من تربة القهر ذاته، يلتقط أنفاسه من بين الضلوع، ويكتب نفسه بخيوط الضوء الضعيفة التي تتسلّل من ثقب نافذة خلفية.
المقصورة الخلفية في السيارة تتحوّل مختبراً اجتماعياً، كلّ راكب يحمل همّاً، وكلّ محادثة تكشف اضطراباً أخلاقياً، قانونياً أو نفسياً. بين المرأة التي تطلب إنفاذ نذر ديني بطريقة ميكانيكية، والرجل المصاب الذي يُترَك بلا ضمان تأمين صحي، تتكشّف هشاشة البنية التي يدّعي النظام الإسلامي أنها متينة. بناهي يترك الكاميرا تدور، يدع الركّاب يتكلّمون، حتى تصل رسالته: إيران الملالي لا تُخيف الجميع، هناك دوماً مَن يجد ثغرة، من يصرّ على البقاء، من يعلن أن الفنّ لم يمت وإن كان صانعه محكوماً بالسجن.
0 تعليق