صراع الأقداس والسلطة: الهوية بين إيران وإسرائيل في دوامة التاريخ والسياسة - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
صراع الأقداس والسلطة: الهوية بين إيران وإسرائيل في دوامة التاريخ والسياسة - تكنو بلس, اليوم الجمعة 20 يونيو 2025 12:26 مساءً


الخوري ريمون أبي تامر

في مشهد الشرق الأوسط المتشظّي، قلّما نجد صراعًا تتشابك فيه الخيوط بهذا القدر من الكثافة كما هو الحال بين إسرائيل وإيران. إنه صراع يتجاوز مفردات الجغرافيا والمصالح، ليتحوّل إلى معركة على المعنى ذاته: من نحن؟ ومن هو الآخر؟ ما حدود الوطن، وما عمق الإيمان؟ إنها مواجهة لا تُدار فقط على الأرض، بل تُخاض داخل الذاكرة، في الميثولوجيا، وفي ضمير الجماعة.

هذا الصراع ليس فقط سياسيًا، بل هو فضاء مفتوح لصدام هويات متجذرة. إيران تُخاطب ذاتها باعتبارها حامل لواء رسالة إلهية شيعية تتجاوز الحدود، وإسرائيل تُعيد إنتاج وجودها من خلال سردية دينية-قومية تؤسس لدولة يهودية ذات خصوصية متفردة. كلاهما يبني أمنه على أسس لاهوتية ومخاوف وجودية. فكيف نقرأ هذا التداخل بين الدين والسياسة؟ وأي سردية تُهيمن حين تختلط المصلحة بالعقيدة؟

من منظور أنثروبولوجي، تبدو الحرب هنا طقسًا جماعيًا متكررًا، يشحذ هوية كل طرف عبر تعظيم الخطر الذي يمثله الآخر. ومن منظور فلسفي، هي لحظة احتكاك بين إرادتين تسعيان إلى السيادة، كلٌ منهما يرى ذاته معيارًا للحقيقة والخلاص، وكلٌ يخشى الذوبان في ظلال الآخر. أما من زاوية التاريخ، فإن هذا الصراع ليس ابن اليوم، بل ثمرة تراكمات تمتد من الإمبراطوريات القديمة إلى الثورة الإسلامية الإيرانية واتفاقات التطبيع الإسرائيلية الحديثة.

ما نحاول القيام به في هذا المقال ليس الغرق في وصف المواجهات، بل فتح أفق لفهمها: قراءة بانورامية تأخذ في الاعتبار العمق التاريخي، مفهوم الهوية، البنية الدينية، والمنطق السياسي. ذلك لأن الصراع الإسرائيلي-الإيراني ليس مجرد اشتباك بين دولتين، بل اختبار حاد لحدود العقلانية السياسية في زمن تتداخل فيه السيادة مع القداسة، والخطاب الاستراتيجي مع الأسطورة.

الهوية في قلب الصراع

الهوية ليست مجرد شعور بالانتماء، بل هي بنية فكرية وثقافية تشكّل الإدراك السياسي للذات والآخر. في الحالة الإيرانية، تُبنى الهوية الوطنية على أساس ديني شيعي، تُعدّ الثورة الإسلامية عام 1979 حدثًا تأسيسيًا أعاد تعريف الدولة كممثل لإرادة إلهية، يتجاوز حدود الجغرافيا التقليدية نحو أفق أيديولوجي عالمي.

في المقابل، تتمركز الهوية الإسرائيلية حول فكرة الدولة اليهودية، التي تمزج بين القومية والدين، وتُحوّل السردية التوراتية إلى أرضية سياسية وأمنية. لا عجب إذًا أن يرى كل طرف في الآخر تهديدًا مباشرًا، ليس فقط لوجوده، بل لهويته العميقة.

هذه الهويات المتشابكة تُنتج منطق صراع قائم على نفي الاعتراف المتبادل. الآخر لا يُرى كشريك ممكن، بل كمهدِّد جوهري. ومن هنا تتغذى سرديات الكراهية والمقاومة، وتتحول السياسات إلى امتداد للهوية، لا مجرد أدوات عقلانية لإدارة المصالح.

التحليل التاريخي للصراع

عاشت إيران وإسرائيل فترة من التقارب الاستراتيجي قبل الثورة الإسلامية، حيث كانت المصالح الاقتصادية والأمنية تبرر التعاون بين الطرفين، خصوصًا في ظل العداء المشترك للأنظمة العربية المحيطة.

لكن مع قيام الجمهورية الإسلامية، تحوّل الخطاب السياسي الإيراني إلى نقيض لما تمثله إسرائيل، وتم وضع الأخيرة في قلب مفهوم "الاستكبار العالمي". ومنذ ذلك الحين، بات الصراع يتخذ أبعادًا متصاعدة.

برزت محطات عديدة في هذا التصعيد، منها دعم إيران للمقاومة المسلحة في لبنان وفلسطين، والتمدد الإيراني في سوريا، ما جعل من حزب الله نقطة تماس دائمة بين الطرفين. وفي المقابل، اعتمدت إسرائيل استراتيجيات استباقية لمنع تمدد النفوذ الإيراني، خاصة عبر الغارات الجوية.

أما الملف النووي فكان وما يزال نقطة تحول مركزية. ترى إسرائيل فيه تهديدًا وجوديًا، بينما تعتبره طهران حقًا سياديًا واستراتيجيًا. وجاءت اتفاقيات التطبيع الأخيرة (اتفاقات أبراهام) لتعزز عزلة إيران، وتخلق محورًا إقليميًا جديدًا يدعم إسرائيل ضمن رؤية أكثر اتساعًا.

اليوم، بات الصراع يُدار أيضًا عبر ساحات ثالثة، كالعراق واليمن وغزة، حيث تُجسَّد معادلات الردع المتبادلة والرسائل غير المباشرة.

التداخل السياسي والديني

في هذا الصراع، لا يمكن فصل الدين عن السياسة. فالدين لا يُستخدم فقط كمرجعية روحية، بل كأداة لصياغة السياسات وتبرير القرارات الاستراتيجية.

إيران تستند إلى عقيدة ولاية الفقيه، التي تمنح القيادة السياسية صفة دينية مطلقة. هذه العقيدة تُبرر التدخلات الإقليمية بوصفها دفاعًا عن الأمة الإسلامية، وتحمل بعدًا رساليًا يتجاوز الحدود.

أما إسرائيل، فتعتمد على مفهوم الدولة اليهودية، الذي يجعل من الدين عنصرًا مركزيًا في تحديد العدو، وفي تشكيل الهواجس الأمنية. إن المزج بين القومية والدين يعمّق الشعور بالحصار، ويجعل من البقاء معركة أبدية.

هذا التداخل يُعقّد إمكانيات الحل، لأنه يجعل من كل تسوية سياسية تهديدًا لهوية راسخة، ويحوّل كل تنازل إلى كسرٍ في السردية التأسيسية لكل طرف.

التحليل الفلسفي لأبعاد الصراع

هذا الصراع لا يمكن فهمه دون تأمل أبعاده الوجودية والسياسية. إنه مواجهة بين هويتين تعتبران نفسيهما حاملتين لحقيقة نهائية، وتتصرّفان وفق منطق استثنائي لا يخضع بالضرورة لموازين الربح والخسارة.

في خلفية الصراع نجد سؤالًا عن "السلطة والهيمنة": من يملك الشرعية لفرض نظامه الرمزي والسياسي على المنطقة؟ ومن يحكم من خلال القوة؟ وما حدود الشرعية في ظل صراع عقائدي؟

أما البعد الزمني والمكاني، فيلعب دورًا محوريًا. فلكل طرف قراءة لتاريخه تمتد لقرون، ولكل منهما ذاكرة جماعية تُبقي الجراح مفتوحة. والقدس، كمدينة مشحونة بالرمزية، تصبح مركزًا لهذا الاشتباك الرمزي.

وأمام كل ذلك، تبرز *اللامعقولية*. فالعقلانية السياسية تبدو غائبة، إذ تستمر الحروب رغم الخسائر، وتتكرر سيناريوهات التصعيد رغم وضوح نتائجها. إنه صراع يحكمه منطق الأسطورة أكثر من منطق الدولة.

في ضوء هذا التحليل، يبدو أن الصراع الإسرائيلي-الإيراني ليس مجرّد نزاع جيوسياسي، بل أزمة بنيوية في هوية الدولتين، وفي فهم كلٍّ منهما لدوره في التاريخ وفي مستقبل المنطقة. التداخل العميق بين الدين والسياسة يُصعّب بناء الثقة، ويجعل من أي حل سياسي رهينة للخطاب اللاهوتي.

إن فهم هذا الصراع يتطلب أكثر من تحليل عسكري أو دبلوماسي. إنه يستدعي قراءة نقدية وفلسفية تضع الهوية، والرمز، والسلطة، والذاكرة في قلب المعادلة. حينها فقط يمكن أن نفهم لماذا يُنتَج هذا العداء باستمرار، ولماذا يبقى بعيدًا عن أي أفق سلام حقيقي.

ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن نزع فتيل صراع حين تكون جذوره مغروسة في عمق المعنى، لا فقط في عمق الأرض؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق