وعي المصريين.. الحصن الذي هزم ماكينة الشائعات الإخوانية - تكنو بلس

صوت الامة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
وعي المصريين.. الحصن الذي هزم ماكينة الشائعات الإخوانية - تكنو بلس, اليوم السبت 21 يونيو 2025 10:42 مساءً

 

الجماعة الإرهابية استثمرت في الفوضى الرقمية ولجانها الإلكترونية لتقويض الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة

الشائعات الإخوانية اعتمدت منهج "الواقعية الملفقة" وإعادة تدوير فيديوهات قديمة بصياغات حديثة لإثارة الغضب

"جيوش الإخوان السيبرانية بدأت في 2011 بعناصر شبابية مدربة على تقنيات إدارة الحسابات الوهمية، واستخدام برامج التلاعب بالتريندات

100 ألف حساب مزيف والإعلامي المستقل واليوتيوبر الحر أحد أذرع التنظيم لنشر الأخبار المفبركة

 

 

منذ أن لفظت جماعة الإخوان الإرهابية أنفاس حكمها الأخيرة عقب ثورة 30 يونيو 2013، لم تتوقف أدواتها التخريبية عن محاولة العبث بوعي المصريين، تارة بالشائعات وتارة بالتشكيك وتارة بترهيب العقول من المستقبل. أدركت الجماعة، بعد أن خسرت شرعيتها السياسية والشعبية، أن ساحة المعركة الحقيقية انتقلت من الميدان إلى العقول، فاستثمرت في الفوضى الرقمية ولجانها الإلكترونية لتقويض الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.

 

ورغم أن الشائعة ليست ظاهرة جديدة في حياة الشعوب، إلا أن استخدامها من قبل جماعة الإخوان الإرهابية أخذ طابعًا ممنهجًا ومؤسسيًا، يستند إلى سرديات مدروسة تستهدف ضرب التماسك الداخلي وإشاعة الإحباط وخلق واقع زائف. لكن الرهان الإخواني سرعان ما اصطدم بوعي مجتمعي أخذ يتبلور تدريجيًا، مدعومًا بمؤسسات إعلامية وأمنية خاضت معركة موازية على جبهة الوعي، لتثبت مصر أن الحروب الحديثة لا تُخاض فقط بالسلاح، بل أيضًا بالكلمة والصورة والمعلومة.

 

وتجلّت خطورة الشائعات التي أطلقتها جماعة الإخوان الإرهابية في قدرتها على استغلال اللحظات الحرجة التي مرت بها الدولة المصرية، من أحداث الثورة وما بعدها، إلى معارك التنمية والإصلاح الاقتصادي. فكلما اتخذت الدولة خطوة نحو الاستقرار، كانت الجماعة تسارع بإطلاق موجة جديدة من الشائعات المصممة بعناية لضرب المعنويات، سواء بتزييف أخبار عن انهيار الاقتصاد، أو تلفيق روايات حول انقسامات داخل مؤسسات الدولة، أو اختلاق أزمات في ملفات الخدمات الأساسية.

 

تلك الشائعات لم تكن عشوائية، بل جزءًا من استراتيجية أكبر تستهدف إعادة إنتاج الفوضى، وإبقاء المواطن في حالة دائمة من القلق والتشكيك، بما يُضعف الرابط بينه وبين دولته. ومع ذلك، فإن التجربة المصرية أثبتت أن وعي الشعوب قد يُخذل مؤقتًا، لكنه لا يُهزم، وأن معركة الوعي، وإن كانت طويلة، فإن أدوات النصر فيها تبدأ من كشف الأكاذيب وتعريتها.

 

ونجيب من خلال 5 محاور تالية، عن السؤال: كيف خرج الإخوان من فقه التنظيم إلى هندسة الأكاذيب؟ 

 

أولًا: صناعة الشائعة في عقل الجماعة؟

 

لم تكن جماعة الإخوان الإرهابية منذ نشأتها في 1928، مجرد تنظيم ديني أو سياسي فحسب، بل كيان قائم على فكرة "التعبئة النفسية" كأداة للتأثير والتحكم في المحيط، اعتمد منذ بدايته على بث الأفكار المغلوطة والرسائل الموجهة ضمن ما يمكن تسميته بـ"هندسة الرأي العام"، حتى قبل أن تمتلك وسائل إعلام أو منصات تواصل، لكن بعد 2011، تحولت الشائعة من أداة إلى سلاح متكامل، وارتقت من "التحريض الفردي" إلى "العمليات النفسية" المنظمة. وفي فقه الجماعة، الشائعة ليست كذبة عابرة، بل "عملية وظيفية" تهدف إلى اختراق وعي الخصم، وتفكيك ثقته بمصادره، وهي تُبنى على عدة ركائز: اختيار التوقيت المناسب، واللعب على الاحتياجات النفسية والاجتماعية للمجتمع، وإقحام رموز الدولة في مرويات الفساد أو الفشل، ثم ترك الرسالة تنتشر ذاتيًا عبر وسائط التواصل، دون الحاجة لمصدر يُحاسب.

 

وما بعد ثورة يناير، ومع انفتاح الساحة الإعلامية وضعف منظومة الإعلام التقليدي، رأت الجماعة الفرصة سانحة لتكثيف عمليات التشويش، واعتمدت على منصات خارجية ممولة وموجهة، وقنوات "مكملين" و"الشرق"، إلى جانب آلاف الحسابات الإلكترونية مجهولة الهوية، التي كانت تُدار وفق جداول تنسيقية دقيقة، لم يكن الهدف نشر الحقيقة، بل خلطها بالزيف، بحيث يصبح الجمهور عاجزًا عن التمييز بين المعلومة والرأي، بين الخبر والدعاية.

 

وأحد أهم ما ميّز الشائعات الإخوانية هو اعتمادها على "الواقعية الملفقة"؛ فهي لا تأتي من فراغ، بل تُبنى على وقائع ناقصة أو مشاهد حقيقية يجري اقتطاعها وتحريفها، كما في فيديوهات قديمة تُعاد ترويجها بصياغات حديثة لإثارة الغضب، وعندما كانت الدولة تواجه تحديات اقتصادية أو قرارات صعبة، كانت الجماعة تُضخِّم المعاناة، وتضعها في سياقات كارثية، لإحداث حالة من الهلع الجمعي.

 

ووثّقت عدة دراسات إعلامية وأمنية أن الجماعة بين عامي 2013 و2019 كانت وراء نشر ما لا يقل عن 25 ألف شائعة ممنهجة، تم رصدها من قبل المركز الإعلامي لمجلس الوزراء، تركز أغلبها على الاقتصاد، الصحة، التعليم، أداء الجيش والشرطة، والأمن الغذائي، ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقات التزييف العميق (Deepfake)، أصبحت الجماعة تعتمد على أدوات أكثر تقدمًا، سمحت لها بفبركة تصريحات أو صور أو حتى محادثات وهمية، في محاولة لإرباك المشهد الداخلي وضرب ثقة المواطن بالمعلومة الرسمية.

 

المحور الثاني: أبرز الشائعات الإخوانية وجغرافيا استهداف المواطن

 

لم تمر مصر بمنعطف سياسي أو اقتصادي أو أمني منذ 2011 وحتى اليوم، إلا وكانت الشائعة إحدى أدوات جماعة الإخوان الإرهابية في محاولة التأثير على المزاج العام، حيث لم يكن الهدف مجرد نقل إشاعة، بقدر ما كان السعي لتشكيل "رواية بديلة" للأحداث، تُشعر المواطن بأن دولته في خطر دائم، وأن مؤسساته تنهار، وأن مستقبله في مهبّ الريح.

 

ففي أعقاب ثورة 25 يناير، ومع حالة السيولة الإعلامية والانفلات الرقابي، نشطت الجماعة في بث شائعات عن "حرق أرشيف الدولة"، و"تهريب أموال من البنك المركزي"، و"اختفاء رجال أعمال"، وكلها كانت تهدف لترسيخ صورة الفوضى وانعدام السيطرة؛ ثم، وبعد وصولها إلى سدة الحكم، لم تتردد في تسخير الشائعات كسلاح لتصفية الحسابات السياسية، من خلال حملات منظمة اتهمت معارضيها بـ"العمالة للنظام السابق"، و"التنسيق مع أجهزة الأمن"، و"الخيانة الوطنية"، بهدف نزع الشرعية الأخلاقية عنهم وعزلهم مجتمعيًا، وخلق ثنائية مغلقة: "إما مع الجماعة، أو ضد الوطن"؛ لكن الذروة الحقيقية لاستخدام الشائعة كسلاح ممنهج جاءت بعد سقوط الجماعة في 2013، حين أطلقت ماكينة إعلامها الإلكترونية آلاف الأكاذيب لتشويه كل ما يتصل بمؤسسات الدولة. 

 

ولم يسلم من هذا التشويه أحد: القوات المسلحة، الذي رُوّج عنه مئات الشائعات أبرزها "وجود انشقاقات داخل القيادة"، و"خسائر ضخمة في سيناء"، و"تورط في صفقات سرية"، وصولًا إلى ادعاءات بتنازل عن أراضٍ سيادية؛ والشرطة، التي استهدفتها الجماعة باتهامات متكررة بتعذيب واختفاء قسري وفساد ممنهج؛ وحتى الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي لم تتوقف الشائعات عن حالته الصحية، أو حياته الأسرية، أو مصادر دخله، ووفق تقرير رسمي صادر عن المركز الإعلامي لمجلس الوزراء، تم رصد ما يزيد عن 30 ألف شائعة في الفترة ما بين 2014 و2023، تركزت 60% منها على ملفات الاقتصاد والتموين والصحة، بينما توزعت النسبة المتبقية بين الأمن والتعليم والخدمات العامة، وتزايد معدل الإشاعات مع كل أزمة تمر بها الدولة: (تعويم الجنيه، جائحة كورونا، حرب أوكرانيا، قرارات تنظيم الدعم، أو تعديل سعر الصرف).

 

المتتبع للأمر، يرى أن الجماعة راعت في بث الشائعات "الجغرافيا النفسية" للمجتمع المصري، فخصصت روايات معينة للأقاليم الزراعية، مثل: (شائعات نقص الأسمدة أو تجريف الأراضي لصالح مشروعات استثمارية)، وأخرى للمجتمعات العمالية، مثل: (شائعات خصخصة الشركات القومية أو تسريح العمال)، وثالثة للطبقة المتوسطة والحضرية، مثل: (شائعات رفع الدعم عن التعليم، أو انهيار سوق العقارات، أو فرض ضرائب جديدة). وما يجمع كل هذه الأكاذيب هو أنها لا تستهدف إسقاط الدولة من أعلى، بل إنها تُبنى على استراتيجية "الإرباك من القاعدة"، عبر إنهاك المواطن نفسيًا، وإغراقه في سيل من التشكيك، وتحويله إلى شخص غاضب، حائر، فاقد للثقة، وأكثر قابلية لتصديق أي رواية تُعاديه، حتى وإن بدت غير عقلانية، فالجماعة أدركت أن معركة الوعي لا تُخاض فقط بالمواجهات المباشرة، بل بتآكل القناعات وتبدد الثقة، ومن هنا، كانت الشائعة بالنسبة لها ليست مجرد أداة، بل مشروعًا تخريبيًا طويل الأجل، هدفه تفكيك العلاقة بين المواطن والدولة، لصالح جماعة لم تتوقف يومًا عن الحلم بالعودة، ولو على أنقاض وطن.

 

المحور الثالث: آلة الشائعة الرقمية وتحولات الخطاب

 

مع صعود مواقع التواصل الاجتماعي بعد 2011، فهمت جماعة الإخوان الإرهابية سريعًا أن المعركة لم تعد تُحسم في الشارع، بل على الشاشات، فاستثمرت بكثافة في تأسيس منظومة إلكترونية عابرة للحدود، تُنتج وتُروّج وتُعيد تدوير الشائعات، مستهدفة المواطن المصري داخل وخارج البلاد، وهذه اللجان، التي بدأت ككيانات صغيرة متفرقة، تحوّلت لاحقًا إلى ما يشبه "جيوش سيبرانية"، تعمل بتنسيق محكم، وتستخدم أحدث أدوات التضليل الرقمي.

 

تشير تقارير إعلامية واستخباراتية إلى أن الجماعة بدأت تأسيس أولى نواة تلك اللجان داخل مصر في الفترة من 2011 إلى 2013، عبر عناصر شبابية مدربة على تقنيات إدارة الحسابات الوهمية، واستخدام برامج التلاعب بالتريندات، وبعد سقوط حكمها، انتقل جزء كبير من هذه البنية إلى خارج مصر، حيث وجدت دعمًا لوجستيًا وإعلاميًا، فأنشأت عشرات المنصات مثل: "مكملين"، "الشرق"، "وطن"، التي لم تكن مجرد وسائل إعلام، بل غرف عمليات نفسية تدير حملات ممنهجة تستهدف الداخل المصري.

 

هذه اللجان لا تعمل بصورة عشوائية، بل وفق تقسيم واضح للأدوار، نستعرضه فيما يلي:

 

1. لجان مختصة بالرصد والمتابعة، تستخرج القضايا الحساسة أو المثيرة للجدل من الداخل.

 

2. لجان تُعيد صياغة القصة وفق رواية مضادة، غالبًا مشبعة بالعاطفة والغضب.

3. لجان النشر والتوزيع، التي تستخدم آلاف الحسابات المزيفة (Bots) لنشر الرسائل في توقيتات محددة، بهدف تصدر المشهد الرقمي.

 

وما يعزز فعالية هذه المنظومة، هو اعتمادها على أدوات الذكاء الاصطناعي وتحليلات "الترند"، مما يسمح لها بضبط نبرة الخطاب وفق الحالة المزاجية العامة، فعندما يشعر المواطن بالإحباط، يُضخِّمون له الإحباط؛ وعندما يغضب، يوجهونه إلى خصم مختار سلفًا: الحكومة، الجيش، والإعلام، أو حتى المواطن نفسه.

كما استعانت الجماعة بشخصيات ظاهرها “الإعلامي المستقل” أو “اليوتيوبر الحر”، بينما هم في الحقيقة أذرع خطابية تعمل وفق أجندة موحدة، قدمت من خلال هؤلاء مزيجًا من الأخبار المفبركة، والتهكم السياسي، والسخرية من مؤسسات الدولة، مما منح الشائعة "شرعية شعبوية" تخدع المتلقي وتُضفي على الأكاذيب مسحة من المصداقية.

 

ويُقدَّر عدد الحسابات المرتبطة باللجان الإلكترونية الإخوانية النشطة حتى عام 2024 بـأكثر من 100  ألف حساب مزيف، بحسب دراسة نشرها مركز دراسات الشرق الأوسط في باريس، كما أظهرت تحليلات منصات "ميتا" و"تويتر" إزالة عشرات الآلاف من الحسابات التي تم تحديد صلتها بتنظيمات تعمل خارج مصر، وتروج لمحتوى معادٍ للدولة المصرية.

 

والأخطر من ذلك، أن هذه اللجان لم تكتفِ بترويج الشائعات بل مارست التحريض المباشر على العنف أحيانًا، خصوصًا في أوقات الانتخابات أو ذكرى ثورة يناير، عبر دعوات لنشر الفوضى، أو تضخيم أحداث محدودة لإيهام الناس بوجود "حالة غليان" شعبية، ما يسهم في خلق بيئة توتر وهمية قد تدفع البعض للنزول أو الصدام.

 

وعلى مدى السنوات الأخيرة، أظهرت التقارير الحكومية الرسمية حجم انتعاش الشائعات، فقد بلغ معدل انتشار الشائعات في مصر 18.8% عام 2023 (مؤشر حول نسبة المعلومات المغلوطة من الإجمالي) حسب تقرير المركز الإعلامي لمجلس الوزراء، وهذه النسبة هي الأعلى منذ 2014، إذ كانت 16.7% عام 2022، و15.2% عام 2021، بينما لم تتجاوز 1–2% في أعوام 2014–2015، وتعكس هذه الأرقام تصاعداً كبيراً في موجات التضليل خاصة بعد أزمة كورونا والأزمات الاقتصادية العالمية.

 

وزعم التقرير الرسمي أن قطاع الاقتصاد تصدر قائمة القطاعات الأكثر استهدافاً بالشائعات في 2023 بنسبة 24 %، يليه قطاع التموين الغذائي 21.2 %، ثم التعليم 11.6 %  والطاقة والوقود 11 %  وخلال عام 2022 كانت نسبتهما 28.5% و30.3% على التوالي. كما أن أكثر من نصف الشائعات في 2023 كانت مرتبطة بالأزمات العالمية (اقتصاد عالمي وكورونا) بنسبة 53.8%، وبيّنت البيانات أيضاً تفوّق شهر ديسمبر 2023 في انتشار الأكاذيب (10.7% من إجمالي الشائعات السنوية) والتظليل حوله، تلاه أغسطس بنسبة 10.9%، وأورد التقرير أمثلة لأخطر الشائعات في 2023 تشمل شائعات عن تنازل الحكومة عن امتيازات قناة السويس أو خفض رواتب العاملين أو تلوث سلع التموين، بينما شملت الأكثر تداولاً إشاعات نقص السلع الأساسية أو إلغاء بطاقات التموين أو رفع الدعم.

 

كل هذه الأرقام الرسمية – الصادرة عن المركز الإعلامي لمجلس الوزراء – تؤكد حجم ما واجهته مصر من “حرب شائعات” خلال عقد مضى، ويُقارن التقرير تكرار الشائعات المدروسة خلال 2020–2023 بأنها أكثر من ضعفين مقارنةً بالفترة 2016–2019 نتيجة متغيرات الأزمات العالمية، وهذا يوضح أن الجماعة الإرهابية استغلت كل أزمة عالمية لتضخيم الأكاذيب محلياً.

 

رابعاً: كيف تُصنع الشائعة داخل تنظيم الإخوان؟

 

وفي سياق فهم المنظومة الإخوانية، لا يمكن التعامل مع الشائعة بوصفها نتاجًا عشوائيًا أو تصرفًا فرديًا داخل الجماعة، بل باعتبارها أداة مُنظمة، تخضع لتخطيط دقيق يشبه إلى حد بعيد إدارة العمليات النفسية داخل جيوش نظامية، فالشائعة عند الإخوان ليست مجرد رواية مختلقة، بل "منتج سياسي" يجري تصنيعه بعناية داخل ورش مغلقة تُشرف عليها القيادة العليا، وغالبًا ما تنطلق من دوائر مثل "اللجنة الإعلامية للتنظيم الدولي" أو "مكتب الخارج" الذي ينشط بقوة من تركيا.

ووفق شهادات منشقة وتحقيقات أمنية متواترة منذ عام 2013، يتكون ما يُعرف بـ"المطبخ الإعلامي" داخل الجماعة من عدة مستويات تبدأ بالتوجيه المركزي، حيث يُحدَّد الهدف المُراد ضربه، سواء كان قرارًا سياسيًا، أزمة اقتصادية، تحركًا أمنيًا، أو حتى زيارة دولية رفيعة، بعد ذلك، تنتقل المهمة إلى مجموعات الصياغة التي تعمل على تأليف الرواية وتطعيمها بأنصاف الحقائق، أو بلقطات مجتزأة، وتغليفها بهوية "المواطن المجهول" أو "المصدر المطلع"، لإضفاء مصداقية وهمية.

 

هذه المرحلة تتم غالبًا داخل مجموعات شبابية مدرّبة تُشرف في الوقت ذاته على قنوات مثل "الشرق" و"مكملين"، بالإضافة إلى مئات الحسابات الفاعلة على منصات "X" وفيسبوك ويوتيوب، وبمجرد الانتهاء من "تجهيز الرواية"، تبدأ مرحلة التوزيع التي تتم عبر ثلاث قنوات: أولًا الإعلام التابع للتنظيم أو الداعم له، والذي يمنح الشائعة طابعًا تحليليًا وبصريًا مُضخمًا، وثانيًا اللجان الإلكترونية، التي تروّج الرواية بشكل كثيف ومنسق، وثالثًا الحسابات المموّهة، التي تتقمص شخصيات مصرية مستقلة، لتُدخل الشائعة من "أبواب المصداقية الاجتماعية".

 

لكن الأخطر أن الجماعة لا تكتفي بإطلاق الشائعة، بل تراقب مسارها عبر أدوات تحليل البيانات، وتُعيد توجيهها بناء على حجم التفاعل، فإذا قوبلت بالتكذيب، تُغيّر زاوية الطرح، إما بالهجوم على الإعلام الوطني، أو بالتحول إلى سردية جديدة، أو بإقحام مشاهد قديمة توظف البُعد العاطفي، وفي بعض الأحيان، يتم تدوير الشائعة لاحقًا بصياغات مختلفة وكأنها جديدة، على أمل أن تتلقفها موجة غضب أو توتر في الشارع.

 

ولا يقل تمويل هذه المنظومة تنظيمًا عن هندستها، إذ تعتمد على تبرعات الأعضاء بالخارج، ودعم مباشر من جهات إقليمية تُوفر بيئة حاضنة للإنتاج الإعلامي، فضلًا عن إيرادات منصات رقمية تدر دخلًا ثابتًا على الحسابات الإخوانية، وتشير دراسة صادرة عن مركز "ويلسون للأبحاث" في 2023 إلى أن الجماعة تُنفق ما بين 4 و6 ملايين دولار سنويًا على إعلامها الرقمي، يخصص نصف هذا المبلغ تقريبًا لبرامج ومنصات تستهدف الداخل المصري بشكل مباشر.

خامساً: كيف أفشل المصريون ماكينة الشائعات؟

 

رغم كثافة الاستهداف الذي مارسته جماعة الإخوان الإرهابية على مدار أكثر من عقد، ورغم تداخل الشائعة مع منابر إعلامية، وقنوات خارجية، ولجان إلكترونية، فإن المعركة لم تكن أحادية الاتجاه، فالمواطن المصري لم يكن متلقيًا سلبيًا طوال الوقت، بل أظهر قدرة لافتة على التمييز والفرز، وتطوّر وعيه تدريجيًا مع تكرار التجربة، حتى بات جزءً فاعلًا في تفكيك الشائعة ذاتها، وكشف نواياها قبل أن تتوسع.

 

وفي السنوات الأولى بعد 2011، كانت الشائعة تجد تربة خصبة نتيجة القلق، والانقسام، وحالة السيولة السياسية. لكن مع سقوط الجماعة، وبدء مؤسسات الدولة في استعادة حضورها، تطور إدراك المواطن لمعنى "المعلومة المغرضة"، وبدأ يتعامل مع كثير من الأكاذيب بحذر بالغ، خاصة حين لمس بنفسه التناقض بين الروايات المروجة والواقع الفعليـ وأصبحت عبارات مثل "مفيش مصدر"، و"بيقولوا"، و"سمعت على فيسبوك"، مثار سخرية شعبية، وليست أدوات إقناع.

ساهم في تعزيز هذا الوعي عدة عوامل متراكبة، أبرزها: تجربة الزمن: فالشائعات الكبرى التي روّجت لها الجماعة — من انهيار الاقتصاد، وانقسام الجيش، وانفجار اجتماعي وشيك — ثبت زيفها بمرور الوقت، وبقي الواقع صامدًا، ومع كل شائعة تسقط، ترتفع مناعة الناس ضد التلاعب.

 

كذلك الإعلام الوطني، لعب دوراً كبيراً، حيث أسهمت القنوات والصحف الوطنية في تبني خطاب تفنيدي، قائم على كشف مصدر الشائعة، وتحليل هدفها، واستضافة خبراء يشرحون خلفياتها، كما تحوّلت منصات الدولة الرسمية إلى أدوات ردّ فوري، تقلّص المسافة بين الشائعة والحقيقة، وهو ما تزامن مع تزايد مع "وعي الجيل الرقمي الجديد، فالأجيال التي نشأت في قلب المعركة، خاصة بعد 2013، طوّرت أدوات دفاع رقمي من تلقاء نفسها، وانتشر ما يُعرف بـ"الكوميكس الواعي"، و"الرد بالضحك"، وموجات من السخرية المنظمة التي تسحب البساط من تحت الشائعة قبل أن تنتشر.

 

كلك التجارب الشخصية المباشرة، فكثير من المصريين باتوا يقيّمون صدق الشائعة عبر تجاربهم المباشرة، وليس بما يُقال لهم، فعندما تنتشر شائعة عن تمس المواطن في حياته العامة ولا يجد المواطن ما يدعمها في حياته اليومية، يتحوّل تلقائيًا إلى مقاوم للرواية الكاذبة.

 

معركة الوعي أطول من الرصاصة

 

وما يميز التجربة المصرية في مواجهة شائعات جماعة الإخوان، أن المعركة لم تُحسم فقط بالردود الرسمية، بل وُجهت بضربات حاسمة من وعي الناس أنفسهم، فالمواطن المصري لم يعد متلقيًا سلبيًا، بل صار فاعلًا في صدّ الأكاذيب، يسأل، يُدقّق، يُفنّد، ويُشارك في التصحيح، وتحوّل من مستهدف إلى مدافع، ومن مستهلك إلى شريك في المناعة الوطنية، وهذا الوعي التراكمي، الذي لم يتكون بين ليلة وضحاها، حوّل ماكينة الشائعة من أداة تأثير إلى عبء على مطلقها، ومن سلاح إلى عبث مكشوف. وفي بيئة إقليمية مليئة بالهشاشة، تبقى مصر مثالًا على أن الوعي الجمعي، حين يتسلّح بالفهم والشفافية، أقوى من أي دعاية ممنهجة، وأقدر على ردع التنظيمات التي تتغذى على الفوضى والافتراء.

 

قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : وعي المصريين.. الحصن الذي هزم ماكينة الشائعات الإخوانية - تكنو بلس, اليوم السبت 21 يونيو 2025 10:42 مساءً

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق