بين جَناحَي الحُرّيّة والعَدالة - تكنو بلس

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بين جَناحَي الحُرّيّة والعَدالة - تكنو بلس, اليوم الثلاثاء 29 أبريل 2025 02:05 مساءً

ليا إبراهيم

 

بين الحرية والعدالة، تقف المجتمعات في مفترق طرق، حائرة بين جناحين لا يستقيم التحليق دونهما. هما قيمتان متلازمتان في الظاهر، متصارعتان أحيانًا في العمق، تكشف مفارقات الواقع عن توتر دائم بين مقتضيات كلٍّ منهما. فالحرية، بوصفها طموحًا إنسانيًا أصيلاً، تستدعي فضاءً من الانفتاح والاختيار والتمرد على القوالب، في حين أن العدالة، بوصفها مبدأً ناظمًا، تطلب ميزانًا من المساواة والانضباط والإنصاف، ولو على حساب الانفلات الفردي. فهل يمكن أن تتحقق إحداهما من دون الأخرى؟ أم أن الجمع بينهما يتطلب توازناً دقيقاً قد يضيق عنه الواقع، وإن اتسعت له المبادئ؟
لقد نشأ مفهوم الحرية في الفكر الإنساني بوصفه ضرورة لميلاد الذات، حيث لا يمكن للإنسان أن يبلغ كماله الأخلاقي والمعرفي دون أن يُتاح له حق الاختيار. ومع فلاسفة التنوير، غدت الحرية حجر الأساس في بناء الدولة الحديثة، تُصان بالدساتير، وتُحمى بالقوانين، وتُعتبر حقًا أصيلًا لا يُمس. إلا أن هذا الإعلاء من شأن الحرية اصطدم، منذ اللحظة الأولى، بمطلب العدالة، لا سيما حين تُستعمل الحرية ذريعة لتكريس الامتيازات، أو ذريعة لخرق القانون، أو وسيلة لطمس حقوق الآخرين. فالحرية التي لا تُقيّد بقيم العدالة قد تنقلب إلى فوضى، والعدالة التي تُمارَس دون مراعاة الحرية قد تتحول إلى قمع.
وهنا تتبدّى معضلة الفلسفة السياسية في صيغتها الأعمق: كيف يمكن بناء نظام اجتماعي يكفل حرية الأفراد دون أن يُخلّ بمبدأ العدالة، أو يقيم العدالة دون أن يصادر جوهر الحرية؟ لقد حاولت الليبرالية الكلاسيكية حلّ هذا الإشكال عبر تأكيد أن حرية الفرد هي السبيل الأنجع لتحقيق الخير العام، معتبرة أن التدخلات باسم العدالة كثيرًا ما تقود إلى استبداد ناعم. غير أن الواقع أظهر هشاشة هذه المعادلة، إذ إن إطلاق العنان للأسواق والحريات الفردية المطلقة قاد إلى تفاوتات صارخة، جعلت العدالة الاجتماعية في مهب الريح. بالمقابل، سعت الاشتراكية إلى ترجيح كفة العدالة، معتبرة أن لا حرية حقيقية في ظل الفقر والتمييز، لكنها، حين تطرّفت، وقعت في فخّ تقييد الحريات باسم المصلحة الجماعية.
وفي خضم هذا التوتر النظري، برزت تجارب إنسانية حاولت التوفيق بين القيمتين، كما هو الحال في الديمقراطيات الاجتماعية، حيث لا تُترك الحرية رهينة بيد الأقوياء، ولا تُختزل العدالة في مجرّد تكافؤ شكلي للفرص، بل يُبذل جهد حقيقي لتقليص الفجوات الاجتماعية مع الحفاظ على كرامة الفرد وحقه في التعبير والاختيار. إلا أن هذا النموذج ليس بمنأى عن التحديات، خاصة في عالم تتسارع فيه التحولات التكنولوجية، وتتداخل فيه الحدود بين الفضاء الخاص والعام، ويُعاد فيه طرح سؤال السلطة والرقابة بصيغ جديدة.
إن التوتر بين الحرية والعدالة ليس مجرّد معادلة قانونية، بل هو انعكاس لصراع أعمق في النفس البشرية، بين الرغبة في الانطلاق والرغبة في الانضباط، بين أن يكون الإنسان سيّد قراره، وأن يكون جزءًا من جماعة تسعى إلى الخير المشترك. فكل مطالبة بالحرية تحمل في طيّاتها قلقًا من الفوضى، وكل نداء للعدالة قد يُخشى أن يتضمن مسًّا بالمبادرة الفردية.
ولا ريب أن المجتمع الذي ينجح في بناء توازن حيّ وديناميكي بين هذين القطبين، هو ذاك الذي يدرك أن الحرية لا تُختزل في رفع القيود فحسب، بل في تمكين الإنسان من العيش بكرامة، وأن العدالة ليست محض مساواة صمّاء، بل تفهّم للخصوصيات وتوزيع منصف للفرص. فليس المطلوب أن نختار بين الحرية والعدالة، بل أن نؤمن أن كلًّا منهما تُغذّي الأخرى، وأن انكسار أحدهما يؤذن بانهيار القيم جمعاء.
لذلك، تبقى مسؤولية الفكر أن يُنقّب في إمكانيات هذا التعايش، وأن يُعيد رسم الحدود في كل مرحلة من مراحل التاريخ، إذ لا شيء أشد خطرًا من وهم امتلاك الحقيقة الكاملة في عالم تتغير ملامحه باستمرار. فبين الحرية والعدالة، لا يكمن الحلّ في الحسم، بل في الإنصات لصوت التوازن، ذاك الذي لا يُملى من فوق، بل يُبنى مع كل فعل إنساني جديد يسعى، رغم التعقيد، إلى أن يكون عادلاً وحرًّا في آن.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق