نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الحرب الأهلية...لست نادماً! - تكنو بلس, اليوم الخميس 10 أبريل 2025 11:58 مساءً
كنت في السابعة عشرة عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، كنت مازلت بلا هوية سياسية واضحة ، اللهم الا التماهي العاطفي مع المدو القومي المسيطر في محيطي وبيئتي المناصرة لفلسطين والمؤمنة بتحريرها إيمانا لا يتزعزع. كنت قبل تلك الحرب بدأت أعرف بوجود "الفدائيين" الذين كانوا بالنسبة إلي وإلى كثر مثلي يمثلون أملاً بالنصر الآتي. كانت إذاعات فلسطين من دمشق والقاهرة تتحدث عن بطولاتهم وعملياتهم وتعدنا بتحرير فلسطين قريباً، وكنا نصدق.
نحن جيل الترانزيستور قبل أن تدخل التلفزيونات إلى قرانا ومنازلنا في بداية سبعينات القرن الماضي، كانت العائلة تتجمع حول الجهاز الصغير الذي يعمل على البطارية لمتابعة الاخبار عن العمليات الفدائية، وهو الجهاز نفسه الذي كان يصدح به صوت جمال عبد الناصر ويتوقف الناس عن العمل والحركة أثناءه ليابعوا خطاب الزعيم، رغم أنهم كانوا اكتشفوا سابقاً أن نشرات المذيع المصري الشهير أحمد سعيد عبر اذاعة "صوت العرب" من القاهرة كانت عبارة عن تضليل واضح، أو على الأقل إخفاء للحقيقة المرة وتغطية الوضع السيء، لا سيما خلال حرب الـ1967 التي انتهت بهزيمة عربية توازي بخطورتها نكبة الـ 1948 وضياع فلسطين.
انخرط أصدقاء وأقارب ومعارف في الحرب الأهلية وقاتلوا على جبهات عديدة، وربما يكون بعض أصدقائي قتلوا أصدقاء لهم ولي، ففي منطقة مختلطة جداً هي قضاء زحلة، الكل يعرف الكل وأهل القرى كلهم جيران ويتعلمون في المدارس نفسها. المنطقة هي النموذج المثالي للتعددية والتنوع في مكوناتها الطائفية والمذهبية.
فرزت الحرب الناس واتجه كل إلى قطيعه فتقاتلوا وتبادلوا التهجير وارتكبوا المجازر في حق بعضهم بعضاً ونسوا كل "العيش المشترك". كم كانت مجرمة تلك الحرب.
الدم يجر الدم والعصبية العمياء تشجع على العنف المتعدد الأشكال والأساليب، انفلتت حرب الإشاعات لتزيد النفوس احتقاناً، هذا ما نكتشفه لاحقاً. عندما تكون الحرب ملتهبة لا وقت للتفكير العقلاني. الموجة تجرف الجميع، العقلاء والرعاع.
انتهت الحرب/ المذبحة وخرج الجميع خاسرين، الا من قطفوا "ثمرة" هذه الحرب، وبالتأكيد ليسوا ضحاياها ولا معظم الاحزاب التي خاضتها وخرجت منها منهكة فاقدة شرعيتها ومصداقيتها، عدا عن آلاف الشباب الذين قتلوا في الجبهات او في الحروب الداخلية بين الأحزاب "المتحالفة" المتصارعة على النفوذ والمغانم في شطري البلد المقسم بين شرقية وغربية ، أو بالأحرى بين مسيحي ومسلم.
لم أحمل بندقية في تلك الحرب، لست ادري إن كان ذلك وعياً أو جبناً أو عدم قناعة بقضية الموت من أجل أحد آخر. لكن مع الوقت ونموي العقلي تكونت لدي قناعة فكرية وسياسية، من دون أن أنخرط حتى في عمل سياسي جدي، كنت على تماس حزبي، لكني لم أرق إلى درجة مناضل، وبالتأكيد لم أكن مشروع شهيد يقتل وهو يصارع الآخرين في بيروت او في الجبل أو في أي مكان آخر.
"زمطت بجلدي" وجنبت أهلي كارثة ما كانوا ليتحملوها لو أصابني مكروه وجنبت نفسي الشعور بالذنب الذي كان ليقتلني لو أطلقت النار على إنسان آخر وقتلته، حتى لو كان قاتلاً. تألمت كثيراً وحزنت كثيراً جدا وثار غضبي كثيراً وراودتني فكرة حمل السلاح أكثر من مرة عندما قتل أقارب لي أو خطف أصدقاء وقتلوا وعذبوا.
اليوم في "اليوبيل الذهبي" للحرب الأهلية اللبنانية، أنظر اليها كجزء من الماضي الذي يجب أن يذكر فقط لأخذ العبرة وتشكيل وعي جديد في أوساط الشباب اللبناني.
لن أحمل نفسي مسؤولية أي خطأ، ولن أندم على مواقفي السياسية وعلى دعمي المعنوي لطرف من أطراف الحرب، يومها كان ذلك موقفا فرضته ظروف موضوعية ومسار تطور فكري معين وحالة عاطفية. ما زلت مؤمنا بكثير من القناعات التي اعتنقتها آنذاك وأهمها إثنتان: الطائفية هي مقتل لبنان وإسرائيل هي العدو.
بعد انتهاء الحرب كان أول ما فعلته هو زيارة المناطق التي كنت اعتبرها "عدوة" والتواصل مع جهات سياسية ما كنت اتصور يوماً أن التقي معها، واكتشفت انه رغم كل شيء يستطيع اللبنانيون أن يعيشوا معاً اذا تخلوا عن تعصبهم الأعمى ، كل لجماعته وليس لدينه، فما أكثر الطائفيين وما أقل المتدينين.
وانا أنظر إلى لبنان المتعثر منذ توقفت الحرب، يزداد يقيني بأن العلمنة هي الحل الوحيد، على مراحل أو دفعة واحدة. يبدو الأمر صعباً جداً، لكن من الأصعب أكثر قيامة البلد في ظل النظام الطائفي الذي هو سرطان قاتل.
علمتني الحرب أن اتواضع وأن أحسب حساباً للآخر وأن لا اعتبر نفسي مالكاً وحيداً للحقيقة، وزادت من يقيني بأن لا شيء يعادل حياتي.
لست نادماً لأني لم أكن "بطلاً" من أبطال الحرب، التي قتل من قتل فيها عبثاً، لم نحرر فلسطين ولم يحي لبنان.
0 تعليق